كتاب “هَل مَا زَالت المَاركسية صَالِحَة بَعْد اِنْهِيَار الْإِتِّحاد السُّوفياتي؟”

لِقرَاءَة هذا الكتاب، أو لِتَنْزِيلِهِ (في الصِيغَة 17)، أُنْقُرْ على الزِّر “تَنْزِيل”، أو أُنْـقُرْ على الرَّابط التالي (الذي يحتوي على حُرُوف PDF) :

<object class="wp-block-file__embed" data="https://livreschauds.files.wordpress.com/2023/11/d8b1d8add985d8a7d986-d8a7d984d986d988d8b6d8a9d88c-d987d98ed984-d985d98ed8a7-d8b2d98ed8a7d984d8aa-d8a7d984d985d98ed8a7d8b1d983d8b3d98ad8a9-d8b5d98ed8a7d984d990d8add98ed8a9-d8a8d8b9d8af-d8.pdf&quot; type="application/pdf" style="width:100%;height:1123px" aria-label="<strong>رحمان النوضة، هَل مَا زَالت المَاركسية صَالِحَة بعد انهيَّار الاتحاد السُّوفْيَاتي؟، نشر 2015، الصفحات 195، الصيغة 17.pdfرحمان النوضة، هَل مَا زَالت المَاركسية صَالِحَة بعد انهيَّار الاتحاد السُّوفْيَاتي؟، نشر 2015، الصفحات 195، الصيغة 17.pdfتنزيل

غِـلاف كِتاب “هَل مَا زَالَت المَارَكْسِيَة صَالحة بعد انهيَّار الْإِتِحَاد السُوفْيَاتِي؟ (الصِيغَة 17)”

فِهْرِس كِتَاب “هَلْ مَا زَالَت المَارْكِسِيَة صَالِحَة بَعْدَ اِنْهِيَّار الاتحاد السُّوفْيَاتِي؟” (الصِّيغَة رقم 17) :

كتاب “هل ما زالت الماركسية صالحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟”، رَحْـمَـان الـنُـوضَـة، الصيغة القديمة رقم 13 :

الــكــلــمــات الــمَــفَــاتِــيــح (mots clefs):
الماركسية، الرأسمالية، الاشتراكية، الاتحاد السوفياتي، الصين، الطبقة العاملة، ديكتاتورية البروليتاريا، مراحل الثورة، ماركس، لينين، اسْطَالِين، مَاوُو تْسِي تُونْغ.

مــلــخّــص الـكـتـاب :

في جوهرها، الماركسية هي نقد شُمُولِي ودَقيـق للرأسمالية، وللمجتمع الرأسمالي. وعلى خلاف بعض الآراء، ليست الماركسيةَ نظرية مُكْتَمِلَة، أو نهائية. وإنما هي اجتهاد عِلْمِي، ونِسْبِيّ، وَمُتَطَوِّر، وَمَوسُوم بِزَمَانه التاريخي. وتبقى الماركسية، مثل كل نظرية عِلمية أو فلسفية، في حاجة إلى مُراجَعَات، لِتَـقْوِيمِهَا، أو لإغنائها. ولَا تتوفّر الماركسية على نظرية جاهزة لِبِنَاء الاشتراكية. لأن نظرية بناء الاشتراكية (من منظور ماركسي) تُـكْتَسَبُ من خلال تجارب بنائها. ولا يشكّل انهيار الاتحاد السوفياتي حُجَّة على خطأ الماركسية. بل تُوجَدُ أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، على الخُصوص، في تفاصيل تاريخ الصِّراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي، وليس في نَـقَائِصَ مُفْتَرَضَة في النظرية الماركسية. الشيء الذي لَا يُلْغِي احتياج الماركسية إلى مُرَاجَعَة، ونـقد، وتطوير، وإغناء، وإبداع. والماركسية (بأدواتها النظرية) هي مُؤَهَّلة أكثر من غيرها لِتـفسير هذه التطوّرات بمنهج عقلاني. وتُشَكِّل مناهج وسُلُوكِيَّات جُوزِيفْ اسْتَالِين قَطِيعَة جذرية مع فِكر كَارْل مَارْكِس، وافْلَادِيمِيرْ لِينِين. وَلَمْ يكن ضُعْفُ ثـقافة اسْتَالِين يسمح له بِاسْتِيعَاب الماركسية، فبالأحرى أن يسمح له بتطويرها. وقد فرض اسْتَالِين استبداده الشخصي المُطلق، على الحزب الشيوعي، وعلى المجتمع. ومارس الكثير من الأخطاء والجرائم. وحَرَّف أطروحة «ديكتاتورية البروليتاريا». وحوّل الحزب الشيوعي إلى نقيضه. الشيء الذي هَيَّأَ شروط انهيار الاتحاد السوفياتي.

Keywords :

Marxism, capitalism, socialism, the Soviet Union, China, the working class, the dictatorship of the proletariat, stages of revolution, Marx, Lenin, Stalin.

Article Summary :

In its essence, Marxism is an inclusif and meticulous critique of capitalism and capitalist society. Unlike some opinions, Marxism is not complete or definitive. Rather, it is scientific studiousness, relative, progressive, and marked by its historical time. Marxism, like any scientific or philosophical theory, needs to be reviewed, rectified, or enriched. Marxism does not exist on a ready-made theory of socialism. Because the theory of building socialism (from a Marxist perspective) is gained through the experiences of its construction. The collapse of the Soviet Union does not prove the error of Marxism. The reasons for the collapse of the Soviet Union in particular lie in the details of the history of class struggle in it, and not in the supposed shortcomings of Marxist theory. Which does not eliminate the need for Marxism to review, critique, develop, enrich, and create. Marxism (with its theoretical tools) is more qualified than others to interpret these developments in a rational manner. The methods and behavior of Joseph Stalin constitute a radical break with the thought of Karl Marx and Vladimir Lenin. The weakness of the culture of Stalin did not allow him to assimilate Marxism, rather it allowed him to develop it. Stalin imposed his personal despotism, on the Communist Party, and on society. He practiced many mistakes and crimes. He falsified the thesis of the dictatorship of the proletariat. And he transformed the Communist Party into its contrary. Which created conditions for the collapse of the Soviet Union.

image my separator

1) تـــقـــديـــم وتــــنــــبــــيــــه

تُوجد ارتباطات عميقة بين «الماركسية»،و«الرأسمالية»، و«الاشتراكية»، إلى درجة أنه، لَا يُمكننا الحديث عن واحدة منها، دون الكلام، بشكل أو بآخر، عن البَاقِيَة منها. ولا يمكن نـقاش مدى سَدَاد النَّظرية الماركسية دون تـقْيِيم تجارب الثورات “الاشتراكية” عبر العالم، وخاصة منها تجربتي الاتحاد السوفياتي والصِّين.

ومِن خلال تجاربي النضالية، لاحظتُ أن نسبة هامّة من المناضلين يتصارعون، داخل ذهنهم، تارةً بشكل صريح، وتارةً بشكل غامض، مع تَسَاؤُلَات نظرية كبرى. أبرزها التساؤل التَّالي: «هل اِنْهِيَار تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي يَعْنِيأن النظرية الماركسية نَاقِصَة، أو خاطئة، أو مُتَجاوزة»؟

وقبل عرض ما أعرفه، ينبغي أن أبدأ بالاعتراف بما أجهله. واعترافي بعدّة قضايا أجهلها، ليس استـقالة من المُباراة، بل قد يَكون إشارة إلى صِدْق كلامي، أو ضمانة على جودة معارفي. فَأعترفُ أن محدودية تجاربي، ومعارفي، لا تسمح لِي بتناول مجمل إشكالات النظرية الماركسية، وَخاصّةً منها الإِشْكَالَات المُتَـعَدِّدَة الموجودة في مجال بناء الاشتراكية. ولَا أقدر على مُعَالَجَتِها بِوَحْدِي. ومن المُسْتَبْعَد أن يقدر نـقاش أوّلي على دراسة مُجْمَل قضايا هذا الموضوع بدقّة عِلمية ومُرْضِيَة. لكن المهم هو أن نَتَجَرَّأَ على بَدْءِ الاجتهاد العِلْمِيّ، ولو بقدر مُتواضع، والشُرُوع في التعاون، والتكامل، بأكبر قدر ممكن من المناهج العِلْمِية، والنـقْدِية. ولو أن هذه المُساهمات الحالية تبقى، بالضّرورة، أَوَّلِيَة، أي في حاجة إلى مُراجَعَات نـقدية، لِتـقْوِيمِهَا، أو لإغنائها، أو لِتَطويرها.

ولَا أُقَدِّسُ جُوزيف اسْطَالِين، ولَا افْلَادِيمِيرً لِينِينً، ولَا كَارْلْ مَارْكِسْ. وهدفي ليس هو الدّفاع عن الماركسية أو الاشتراكية، وإنما هو ردّ الاعتبار إلى العَقْل النـقْدِي في كل شيء، بما فيه السياسة، والنضال، والحزب، والنظرية، وبناء الاشتراكية، إلى آخره. فمرجعنا الأساسي، ليس هو نصوص ماركس، وإنما هو العقل النـقدي. وكلّما ضَعُفَ، أو غَابَ، العقل النـقدي، أصبح الانحراف وَارِدًا، أو الاِسْتِلَاب (aliénation) مُحْتَمَلًا. لكن العقل النـقدي لا يكفي وحده. إِذْ الْـعَـقْـل بدون استيعاب عُلُوم زَمَانِنَا التاريخي، أو بدون التَشَبُّع بالتُرَاث الثـقافي لِمُجْمَل الإنسانية، سَيَبْـقَـى هذا العَـقْـل مثل طاحونة تدور في فراغ، ولَا تُنْتِج سوى غُبَارًا غير مُفيد.

أُسَاهِمُ في هذا الحوار حول “الماركسية”، و”الاشتراكية”، وأعترف، في نـفس الوقت، أنني أجهل أشياء كثيرة عنهما. فَلَا أعرف بالتَدْقِيق كيف تُبْنَى الاشتراكية. وَأَحْمِلُ في ذهني تساؤلات كثيرة حول مضمونها، وشكلها، وأساليبها، وطُرُق تَشْيِيدِها. والهدف من مساهمتي هاته، ليس هو تَرْدِيدُ مَقُولَات النظرية الماركسية (أو الماركسية اللِّينِينِيَّة) المَـعْـرُوفَـة، والمُـكَرَّرَة، مِثلما يَكْتـفِي به البعض.وإنما هدفي هو اِقْتْسَام بعض التساؤلات النظرية النَـقْدِيَة. وأستـغلّ مناسبة هذا الحوار لِمُحَاوَلَة فَحْصِ بعض مناهجنا كَمُنَاضِلِين، ومراجعة طُرُقِـنَا في التـفكير. وقد كتب كَارْل مَارْكِس: «يحتاج المُرَبِّي هو نـفسه إلى إعادة التربية»(1). ومن بين أَهَمِّ مَهامِّنَا، مُراجعة وتدقيق بعض المناهج التي نـفكّر بها. هل هي سَلِيمة؟ هل هي أَيْدِيُولُوجِية؟ هل هي مُجرّد آراء شَائِعة، أو مبادئ مُكَرَّرَة، أو قَوَالِب جَامِدَة (stéréotypes)؟ هل هي أفكار مُسْبَقَة؟ هل هي مُعتـقدات غير مُثْبَتَة؟ إلى آخره. وغَايَتُنَا هي إعادة الاعتبار إلى العَقْل، وإلى الحِسّ النـقْدِي، وإلى العُلُومالدَّقِيقة.

(1) كارك ماركس، في أطروحته رقم 3 حول فُويِيرْبَاخً (Feuerbach) (K. Marx et F. Engels, Œuvres Choisies en trois volumes, Tome 1, Editions de Progrès, Moscou, URSS, 1976, p.9).

وفي عصرنا الحديث، يتواجد الصِّرَاع الطَّبَقِي في كلّ مجالات المُجتمع. لكن وسائل دِعَايَة النظام الرأسمالي القائم تُخْفِي (masquer) مُعْظَم مظاهر الصِّراع الطبقي، أو تُمَوِّهُهَا (camoufler)، أو تَنْكَرُها (nier)، أو تُؤَوِّلُها (interpréter). ولَا تـقُوم قِوَى اليسار بما فيه الكفاية بِتحليل الأحداث المُجتمعية، بِهدف إِبْرَاز مظاهر الصراع الطبقي فيها. وهذا نَـقْصٌ جَسِيم.

ومن زاوية المُعتـقدات، ينـقسم الفكر البشري إلى نوعين: نوع أوّل مُعَوَّق، يعجز على رؤية الواقع كما هو. وَيُضْفِي معتـقداته الخَيالية المُسْبَقَة على الواقع. فلا يرى في الواقع سوى مُعتـقداته الخيالية المُسْبَقَة، التي تُهَيْمِنُ على عقله. فَتَتَأَكَّدُ وتَتَرَسَّخ لَدَيْه معتـقداته الخيالية. فَيُصْبِحُ هذا العقلُ يدور في «حَلْقَة مُفْرَغَة» (cercle vicieux). ويعجز هذا النوع الأوّل من الفِكْر على التـقدّم. ونوع ثان من الفِكْر، سَلِيم نِسْبِيًّا، يَنطلق من الواقع المَلْمُوس، وَيُحَلِّله، ويَنْتـقِدُه، ويجتهد باستمرار لِكَيْ يُحَرِّر نـفسه من المُعتـقدات الخيالية المُسبقة. ويجتهد لكي يرى الواقع كما هو. أي بدون مُعتـقدات مُسبقة. فَيَغْدُو هذا الفكر قادرًا على التـقدم.

ومن زاوية التعامل مع الرأسمالية، ينـقسم أيضًا الفكر البشري إلى نوعين: نوع أوّل مُعَوَّق، يخضع للرأسمالية، ويُنَاصِرُها، رغم مَا يَرَى فيها من جَرائم نَسَقِيَة (systémique)، أو مُجتمعية، أو مُمَوَّهَة (camouflés). ونوع ثان سليم نِسْبِيًّا، يَتَجَرَّأُ على نـقد الرأسمالية، وعلى فضح جَرائمها المُجتمعية، وعلى الطُموح إلى التحرر منها.

والفكر الماركسي هو من أَهَمِّ المدارس الفكرية، النَّادِرَة جِدًّا، التي تنتـقد الرأسمالية، وَتُـقُدِّم نَـقْدًا شَاملا لِمُجمل المُجتمع الرأسمالي (الوطني، والعالمي). لذلك نُلاحظ أن مُجمل أنصار الرأسمالية يَتَوَاطَؤُون على محاربة الفكر الماركسي.

وفي مجال نِـقَاش “الماركسية”، أو “الاشتراكية”، يبقى الحِيَّادُ شبه مُستحيل. فكل موقف سياسي يناصر بالضَّرورة مصالح طَبقة مُجتمعية مُحَدَّدة. والعُنْصُر الأساسي الذي يُحَدِّدُ مَوْقِفَ أيّ شخص، في أية قضية، هو خُصُوصًا مَوْقِعُه في البِنْيَة الطَبَقِيَة للمُجتمع. (الشيء الذي لا ينـفي وجود حالات نادرة مُخالفة، أو استثنائية، أو مُنَاقِضَة).

والعامل السياسي الأساسي الذي يُمَيِّز أيّ شخص عن شخص آخر، ليس هو لِبَاسُه، أو شَواهده، أو مِهنته، أو رَصيده المالي، أو ما شابه ذلك، وإنما هو نَوْعِيَةُ المَنَاهِج التي يُفكّر بها، وَنَوْعِيَة المَنَاهج التي يَشْتَـغِلُ بها.

وهدفي في الكتاب الحالي، ليس هو عرض مواقفي الشخصية، أو كسب أَنْصَار سيَّاسيِّين. وإنما هدفي، هو الاقتراب أكثر ما يمكن من الحقيقة، وعرض أهمّ المُعْطَيَات، وطرح الأسئلة الضرورية، ولو كانت مُحْرِجَة، وترك المجال للقارئ لكي يتساءل هو نـفسه، ولكي يُحاول القارئ، بِحُرِّيَة، بَلْوَِرَةَ مواقفه الشخصية. وبعد ذلك، إن إِتَّحَدْنَا على أساس حقائـق عقلانية، فسيكون إتِّحَادُنا أكثر صَلَابة، وَفَـعَالِيَة.

والغاية من المقال الحالي، ليست هي التعريف بالماركسية، وإنما هي نـقاش التساؤل: «هل مَا زَالت الماركسية صالحة بعد انْهِيَار الاتحاد السُّوفياتي؟». وأفترض في القارئ أنه يعرف الأطروحات الرئيسية في النظرية الماركسيةَ. كما أَفْـتَـرِضُ في الـقَارِئ أنه يُدْرِكُ نِسْبِيًّا بعض المَحَطَّات في تاريخ الثَـوَرَات، في كلّ من رُوسيا والصّين. وَأُنَبِّه إلى أن الأفكار المعروضة في المقال الحالي ليست كلّها من ابتكاري. وأكتـفي بالإشارة، في بعض المواقع من المقال، إلى مصادر بعض هذه الأفكار. وفي مواقع أخرى كثيرة، استعمل تِلْقَائِيًّا أفكارا ماركسية، دون أن أشعر بالحاجة إلى التذكير بمصادرها، لأنها أصبحت جزءًا عضويًّا مِن مَنَاهِجِي الشخصية التي أفكّر بها. ودون أن أنسى أنه بإمكاني أيضًا أن أُُسِِيءَ فهم بعض الأطروحات الماركسية، فأظنّ أن فكرة مُحَدَّدَة ماركسية بينما هي مخالفة لِلماركسية.

وجرت العادة، في بعض البلدان، وفي بعض أوساط المناضلين الماركسيين، بِاتِّهَامِ كل مناضل يراجع بعض المُعتـقدات ”الاشتراكية”، أو ”الماركسية”، بِتُهْمَة «التَحْرِيفِيَة»، أو «الرِّدَة»، أو «التَرَاجُع»، أو «اليَمِينِيَة»، أو «التْرُوتْسْكِيَة»، إلى آخره. ورغم ذلك، سأحاول مراجعة بعض الأفكار أو المبادئ الماركسية، دون مُبَالَاة بمثل هذه الاتهامات. والمُهم هو البَحْثُ الجَمَاعِـي عن الحقـيقة الثَوْرِيَة، دون الاكتراث بما يقوله المُعَلِّقُون. وما يظهر اليومَ ”تَحْرِيفِيًّا”، أو خَاطئا، يمكن فعلاً أن يبقى خاطئا، كما يمكن أن يصبح غدًا مقبولاً، أو بديهيا للجميع. بالإضافة إلى أنه لَا يُعقل تجريم الآراء المخالفة. وشعارنا المُمَيِّز هو : حَيْثُمَا كُنَّا، نـقوم دائمًا بواجباتنا كاملة، ولو تَهَرَّبَ الآخرون من القيام بواجباتهم.

2) لِــمَــاذا انْــهََــارَ الاِتِــحَــادُ الــسُّــوفْــيَــاتِــي ؟

خلال قرابة سنة 1991، انهارت فجأةً منظومة الاتحاد السوفياتي” (أو اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية) (URSS). ولم يسبق لأي أحد أن توقّع تَوْقِيت وَكَيْـفِـيَّـة هذا الانهيار. ثمّ انهارت الأنظمة السياسية الجَارَة التي كانت حَلِيفَة له في إطار “حِلْف وَارْسُو” (Pacte de Varsovie). ثم الْتَحَقَ بعض هذه الأنظمة بالحِلْف العَدُوّ، الذي هو الحِلْفُ العَسْكَري للإِمْبِرْيَاليَات الغربية، أي “حِلْف النَاتُو” (Otan, ou Nato). وذلك لأسباب مُزمنة ومُعقّدة، داخلية وخارجية. وحتى يُوغُوسْلَافْيَا الاشتراكية التي كانت نموذجا عَالَمِيًّا لِتَـعَايُش وتَضَامن شُعوب مختلفة، تَشَتَّـتَت، وسَقَطَت شعوبُها في حروب طَائِفِيَة مُدَمِّرَة، أساسها الفكر اليَمِينِي المُتطرّف، أو الغَرَائِز الرَّأْسَمَالِيَة المُـفْـتَرِسَة، أو المُـعْـتَـقَـدَات الـقَوْمِيَة المُتَـعَـصِّبَة، أو النَزْعَة الوطنية الضَيِّقَة، أو الكراهية العُنْصُرِيَة الدَّفينة. واعتبرَ كثير من الكُتَّاب فجأةً «انهيارَ الاتحاد السُّوفياتي» بمثابة امتحان لِفَحص مَدَى صِحَّة نظرية الماركسية. واسْتَنْتَجَ البعض أن «انهيار الاتحاد السوفياتي يُثْبِتُ خطأ النظرية الماركسية». وأن «الطموح إلى الاشتراكية هو مجرد حُلْم طُوبَاوِي (utopique)». بينما هذا الانهيار للاتحاد السوفياتي هو في العُمق امتحانٌ لسلامة عُقُول كل الفاعلين السياسيين.

وقد طرح بعض المثـقـفين (مثل فؤاد النمري)، ضِمْنَ الأسباب المُـفَـسِّرَة لانهيّار الاتحاد السوفياتي، أن «جوزيـف اسطالين، مَات ضحيّةً لِتَسَمُّمِه من طرف بعض رفاقه». ويَـفْـتَرِضُ هؤلاء المثـقـفين أن «اِغْتِيَّال جوزيـف اسطالين حَرَمَه مِن إمكانية اِسْتِـكْـمَال إنجاز مهام الثورة الاشتراكية بالمَنْهَج الصَحِيح». وأن «تصفيّة جوزيـف اسطالين، وَبِاعْتِبَارِه أكبر ماركسي لِينِينِي في عصره، وَغِيَّابُه من قـيادة الحزب الشيوعي السوفياتي، تـرك فراغًا كبيرًا في قِيّادة الثورة، وَفتح إمكانيات كبيرة لانحراف الثورة الاشتراكية». وهذا الطَرْح، يُـثِير الملاحظات التالية: أ) لا أتوفَّرُ على حُجَج كافية تُـثْبِتُ حقيقةَ تَسَمُّم جوزيـف اسطالين. ب) هذا التَسَمُّم مُسْتَبْـعَد. لأن هَيْمَنَة جوزيـف اسطالين، واستبداده، وَعُنْـفُه، كان يُـثِير ما يَكْـفِي من الرُّعْب، لَدَى المُعارضين، ولَدَى المُخَالِـفِين، لِكَي لَا يَجْرُأَ أحدٌ من الأشخاص المُـقَـرَّبِين مِن اسطالين على التـفكير في مُحاولة اغتيّاله. ت) إذا لَجَأَ بعض رفاق اسطالين إلى تَسْمِيمه لِلتَخَلُّص منه، فهذا يُؤكّد أن أسلوب الاغتيالات، والتصفيّات، كان أسلوبًا مَعْمُولًا به، كَمَنْهَج لِمُعَالَجَة التـناقضات، سواء داخل المُجتمع، أم داخل الحزب الشيوعي البلشفي. ث) يُؤَكِّد هذا الطَرْح المذكور أن جوزيـف اسطالين كان يستـعمل تصفية المعارضين السياسيّين. وَيُؤَكِّد أن مَنْهَج اللُّجُوء إلى مُمَارسة الصراعات السياسية، والـفِكْرِيَة، والأيديولوجية، وحسمها بانـتخابات ديموقراطية داخل الحزب الشيوعي الحاكم كان أمرًا غير مَعْمُول به، وغير مَوْثُوق فيه. ج) ووُجود مَنهج مُعالجة التـناقضات الداخلية بِالتَصْفِيَّات الجسدية داخل الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي يُؤكِّد أن هذا الحزب كان بعيدًا جدًّا عن المناهج الماركسية الثورية، وعن الأساليب الاشتـراكية، وذلك سواءً قَبْل مَوت جوزيـف اسطالين، أم بعد تَسْمِيمِه المُـفْتَرَض، أو بَعد قَتْلِه. ح) أطروحة تَسْمِيم، أو قتل، جوزيـف اسطالين، لا تُـفسّر انهيّار الاتحاد السوفياتي، وإنما هذا الاغتيّال المُـفترض يَحتاج هو نـفسه لِمَا يُـفَـسِّـره.

2.1 – هـل يُـبَـرِّرُ انـهـيـارُ الاتـحـاد الـسـوفـيـاتـي الـشَـكَّ فـي الـمَـارْكِـسِـيَـة ؟

بعد الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفيتي في عام 1991، لم يَعُد أحد قادرًا على مُقاومة هَيْمَنَة الولايات المتحدة الأمريكية، وتحالفها العسكري في “الناتو” (NATO). ولم يعد مجال تدخل “الناتو” هو فقط منطقة شمال المُحِيط الأطلسي، بل إمتدّ إلى العالم كله. وكل نظام سياسي ذي تَطَلُّـعَات تَحَرُّرِيَة أو اشتراكية، تَـتِمُّ محاربته بكل الوسائل، القانونية وغير القانونية. بِمَا فيها سِلَاح «العُـقُوبَات الاقتصادية»، التي تُرِيد الإمبرياليات الغربية من خلالها سَـحْـق البَلَد المُـقَاوِم، أو الثَّائِـر. وتَـفْرِضُ وسائل الإعلام الرأسمالية، المُهيمنة عَالَمِيًّا الحقائـقَ الجديدة المنتصرة: «الماركسية خاطئة»، و«الاشتراكية هي مُجرّد يُوتُوبْيَا»، و «الرأسمالية هي النموذج الاجتماعي الأبدي الوحيد القابل للحياة»!

وبعد «انهيّار الاتحاد السُّوفياتي»، بدأ بعض “المُتَـكَلِّمِين” يُبَشِّرُون بِـ «نِهَايَة التاريخ». وأغلبية المواطنين، والنشطاء، والاقتصاديين، والأحزاب السياسية، وحتى بعض الدول، أذهلتهم هذه الأحداث المُحيّرة، وفقدوا بُوصَلَاتِهِم النَـظَرية. فَضَعُفَ التفكير النـقدي، و أصبحت البدائل هَزِيلة، أو نَادرة. وأصبحتْ النقاشاتُ المتناقضةُ قَليلة، أو مُنعدمة. وتَضَائَلَت كذلك أشكال المقاومة، وحريات التعبير. إلى درجة أن بعض الأحزاب السياسية (مثل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب التقدّم والاشتراكية)، وحتى بعض الدول (مثل الجزائر، ومصر)، الذين كانت أسماءهم الرَّسْمِيَة تحمل في الماضي صِفَة «الاشتراكي»، تَحَوَّلُوا، وَدُونَ سابق إنذار، إلى مُؤيدين للرأسمالية، أو مُعادين للماركسية، أو مُعارضين للاشتراكية، أو غَدَوْا مُحافظين، وأحيانًا حتّى رجعيين. واليوم، لم تَعُد الحقائق القديمة واضحة. بَلْ تَجب إعادة النظر في كل شيء. كما تَجب مُرَاجَعة كل شيء، وإِعَادَة التفكير في كل الأُمُور، عَبْرَ مِصْفَاة النَـقْد الثوري.

فورًا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ظهرت لدى بعض المناضلين “الاشتراكيين”، المُنتشِرين عبر العالم، تساؤلاتٌ، ثم شُكوكٌ، ثم حِيرَة نظرية: هل انهيار الاتحاد السوفياتي يعني خطأ الماركسية؟ هل فَشِلت الاشتراكية؟ هل الاشتراكية هي حُلم مُستحيل؟ وإن كان الطموح إلى الاشتراكية مجرّد حُلْم طُوبَاوِي، فَهَل ستبقى الرأسمالية هي قَدَرُنَا الأَبَدِي؟ هل انهيار الاتحاد السوفياتي هو نتيجة فقط لارتكاب بعض الأخطاء على مستوى التطبيق، أو التَدْبِير؟ لماذا لم يَبْقَ في العالم كله ولو نموذج واحد مُرْض لِنظام الاشتراكية؟ هل ما يجري في بعض البلدان مثل الصِّين، أو كُوبَا، أو كُورْيَا الشمالية، هل هو اشتراكية؟ لماذا لم تَنْجَح بما فيه الكفاية حتّى تجارب بناء «الاشتراكية الديمقراطية» (la sociale démocratie) البرجوازية في بلدان أوروبا الغربية المتـقدّمة؟ هل أحزاب اليسار تـفهم اليومَ لماذا انهارت تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي؟ هل مَا زَال معظم مناضلي أحزاب اليسار يُؤْمِنُون حقيقةً بالثورة المُجتمعية، وبالماركسية، وبالاشتراكية؟ هل توجد كِتَابَات ومراجع نظرية (باللغة العربية) تـقدّم ما يكـفي من الشُّرُوح لِتـفسير أسباب انهيار “الاتحاد السّوفياتي”؟ هل القِوَى السياسية التي تُدافع عن مشروع تشييد «الاشتراكية» تَتَوَفَّرُ على ضَمَانَات لِتَلَافِي تِكْرَار الأخطاء، أو الانحرافات، التي وقعت في الاتحاد السوفياتي، أو في الصِّين، أو في غيرهما؟

والمثير للانتباه أننا لَاحَظْنَا بِسرعة في ميدان النضال الثوري، أن المناضلين الاشتراكيين القُدامَى، الذي استنتجوا من “انهيّار الاتحاد السوفياتي” أن النظرية الماركسية أصبحت “مُتَجَاوَزَة”، تحوّلوا (بدون وَعْي ولَا تخطيط) إلى مناصرين للرأسمالية، ثم أصبحوا هم أنفسهم “مُتَجَاوَزِين”، على كُلّ المُستويات النضالية والحزبية والسياسية والنظرية. بِمَعْنَى أنه، حتّى وَلَو اِفْتَرَضْنَا وُجود بعض النَـقَائِص في النظرية الماركسية، فإنه في حالة تَغْيِيب النظرية الماركسية، لَا تَبْـقَى سوى الرأسمالية الفَجَّة كَمنظومة مُطلقة تُسيطر على كلّ شيء.

يتطلَّب تـفْسِير انهيار الاتحاد السُّوفْيَاتِي تَظَافُرُ جُهُود عِدّة عُلَمَاء بَاحِثين. ويحتاج إلى كِتابة عدّة كتب مُعَمَّـقَة عن تطوّر الصراع الطبقي في الاتحاد السُّوفياتي. لأن الأسباب التي تـفسِّر انهيار الاتحاد السوفياتي، لَا تُوجد في تـفاصيل النظرية الماركسية، وإنما تُجود في تـفاصيل المُمَارَسَة، أي في تـفاصيل تَطَوُّر الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي. بل يمكن أن نجد في النظرية الماركسية، هي نـفسها، ما يكفي من الأدوات النظرية لتـقْـيِـيم وَنـقْد تجارب الاتحاد السوفياتي والصّين.

وكانت كُتب ودراسات شَارْل بِيطَلْهَايِمْ (Charles Bettelheim)(1)، حول الاتحاد السوفياتي [وكذلك حول الصِّين]، مُعمّقة، ومُفيدة. ودرس شَارْل بِيطَلْهَايْم فيها إشكالات بناء الاشتراكية، ومظاهر الصراع الطبقي، وتـفاصيل تطوّر قضية التحالف بين العمال والفلاحين، إلى آخره. لكن دراسات شَارْلْ بِيطَلْهَايْمْ حَدَثَت قُبَيْلَ انهيار الاتحاد السوفياتي بِبِضْعَة سنوات. وبالتالي، فإشكالية احتمال انهيار الاتحاد السوفياتي (وَلَوْ كَفَرَضِيَة نظرية) لم تكن حاضرة بما فيه الكفاية في أبحاث شَارْلْ بِيطَلْهَايِْمْ. لأن هَمَّ بِيطَلْهَايم كان هو دراسة الماضي والحاضر، وليس التَنَبُّؤْ بِالمُستـقبل. ورغم أنني لم أستطع الوصول سوى إلى جزء قليل من أعمال بِيطَلْهَايْم، فإنني أعرف أن أبحاث بِيطَلْهَايْم تحتوي على تـفاصيل مُعمَّقة. وقد غَدَت كُتب شَارل بِيطَلهَايْم مَرْجِعًا أَسَاسِيًّا لِفَهم تـفاصيل ما جَرى في الاتحاد السوفياتي.

(1) Parmi les ouvrages (en français) de Charles Bettelheim: La planification soviétique; L’économie soviétique; La construction du socialisme en Chine; Révolution culturelle et organisation industrielle en Chine; Les luttes de classes en URSS (en 3 grands tomes); L’industrialisation de l’URSS dans les années 1930; Questions sur la Chine après la mort de Mao Tsé-toung.

وفي المقال الحالي، لا أقدر على تناول تـفاصيل التَطَوُّر التاريخي لِلصِّرَاع الطبقي في الاتحاد السوفياتي. فَـأَكْتـفِي بالإشارة إلى بعض العناوين الكبيرة، أو إلى بعض الأفكار الرئيسية. وفي العُمق، فإن موضوع الخلاف، والذي هو مسألة «كيف نتحرّر من الرأسمالية؟»، أو «كيف نُشَيِّـدُ الاشتراكية؟»، ليس موضوعًا مُحَايِدًا (neutre)، بل يبـقى هو نـفسه مَجَالًا للصراع الفكري، ومجالًا للصراع الطبقي. وعليه، فَمُعْظَم الاحتمالات النظرية (حول إشكالية بناء الاشتراكية)، بما فيها احتمال الفشل، أو النجاح، تبقى وَارِدَة.

2.2- هـل تُـوجَـدُ دراسـات بـاللـغـة الـعـربـيـة تُـفَـسِّـر انـهـيـار الاتـحـاد الـسُـوفْـيَـاتِـي ؟

قبل سنة 2012، لم نَـعْثُر في البلدان الناطقة باللغة العربية على دراسات تـفسّر انهيار الاتحاد السوفياتي“. وبعد مجيء المناضل رِزْكَارْ عَقْرَاوِي(1) (وهو من مناضلي اليسار في كُرْدِسْتَان العراق)، أَقْدَمَ مع بعض أصدقاءه على تشيِيد الموقع الإلكتروني المُسَمَّى: الحِوَارالمُتَمَدِّن(http://www.ahewar.org/debat/nr.asp)(2). وتطوّر هذا الموقع الإلكتروني بسرعة. وأصبح زُوَّارُه يُعَدُّون بالملايين. وغدى أكبر موقع إلكتروني ثـقافي في العالم يستعمل اللغة العربية. وبِمُنَاسَبة الذكرى المِئَوِيَة لانطلاق ثورة أكتوبر 1917 في رُوسْيَا، نشر هذا الموقع عددا مُهِمًّا من مَقالات ودراسات مُناضلين مُختلفين، تُشَارِك في محاولة تحليل ثورة أكتوبر 1917. ومن بين الأسماء التي ساهمت في هذه المجهودات: سمير الخطيب، وفلاح أمين الرهيمي، وماهر الشريف، وسلامة كيلة، وأحمد الليثي، وملهم الملائكة، وجيلبر الأشقر، وجمال البزويقي، وسعيد قبيلات، ومئات الكُتّاب الآخرين. وفاق عدد المقالات (حول ثورة أكتوبر 1917) 300 مقال. وَقَدَّمَ جِيلْبِير الأشقر ملخّصا لأهم كتاب حديث، صَادِر بالإنجليزية، عن الثورة الروسية، كَتبه المُؤَرِّخ الانجليزي اسِتِيفَنْ أَنْـتُونِي اسْمِيثْ(3). وبفضل هذه الاجتهادات، أصبح موقع ”الحوار المتمدّن“ يوفِّر لِزُوّاره، ولقرّائه، مجموعة غَنِية نِسْبِيًّا من المقالات أو الدراسات الهامّة، باللُّغَة العربية، حول ثورة أكتوبر 1917. (ولَوْ أن نسبة المقالات التي تَطَرَّقَت للموضوع الأكثر صُعُوبَةً، والذي هو أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، بَـقِيَت قليلة جدًّا).

(1) رِزْكَارْ عَقْرَاوِي هو أوّل من طرح فكرة “اليسار الإلكتروني” (E-Left). وسَانَدَ “عدم التمسك الحرفي بالنصوص الماركسية”. ونَادَى بإحداث: “يسار يستند إلى التطور المعرفي والعلمي العقلاني، وإلى الفكر اليساري والإنساني، وقادر على الاستـفادة، واستخدام التطور العلمي، والتكنولوجي، في عمله النظري، والسياسي، والتنظيمي، والإعلامي، والثـقافي، والجماهيري. ويطرح سياسات واقعية، وينطلق من قدراته، ومن قدرات الفئات التي يدافع عنها، ومن درجة تطور المجتمعات”.

(2) يُعَدُّ مُجْمَل زُوَّار مَوْقِع “الحِوَار المُتَمَدِّن” بالملايِين. ويبلغ العدد الإجمالي للمواضيع المَقْرُوءة في “الحوار المُتمدّن” أكثر من 3 مِلْيَارَات. ويَفُوقُ عدد المواضيع المُرسلة إلى “الحوار المُتمدّن” 750 ألفً موضوع. ويبلغ عدد كَاِتَبات وكُتَّاب “الحوار المُتمدّن” 623 32 كاتبة وكاتب.

(3) كِتَاب: اسْتِيفَنْ أَنْتُونِي اسْمِيثْ، “رُوسْيَا في ثورة: إِمْبْرَاطُورِيَة في أزمة، 1890-1928″، باللغة الإنجليزية.

ومِمَّا شرحه مثلًا سعيد قبيلات في موقع “الحوار المتمدن”، أن الماركسية لَا تتوفّر على نظرية جاهزة لِبِنَاء الاشتراكية. وأن ماركس لم يضع تصوّرًا لِبِنَاء الاشتراكية. لأن معرفة بناء الاشتراكية (من منظور ماركسي)، لَا تُخْتَرَعُ في الخيال، وإنّما تُكْتَسَبُ من خلال تجارب بنائها. الشيء الذي يُبرز أهمية الانطلاق من الواقع، ومِن المُمَارَسَة، وليس من الخَيَال. وكان ماركس قد ركّز مُجمل جُهوده على نـقد الرأسمالية. وكان البرنامج العام في “الاتحاد السُّوفياتي” هو «إنجاز الثورة الديموقراطية البورجوازية، ثم الانتـقال إلى الثورة الاشتراكية البْرُولِيتَارِيَة» (لِينِين). لكن المنتوج التاريخي الذي حصل عَمَلِيًّا (في الاتحاد السُّوفياتي) هو «رأسمالية الدولة الوطنية لِذَاتِهَا، (…) خاضعة للضّرورة التاريخية» (سعيد قبيلات).

2.3– هـل تُـشَـكِّـلُ سـيـاسـات اسْـتَـالِـيـن اسْـتِـمْـرَارِيَـة أم قَـطِـيـعَـة مـع الـمـاركـسـيـة ؟

لِتَسْهِيل مُحاربة كلّ مِن الماركسية والشيوعية والاشتراكية، رَوَّجَت وسائل إعلام الدول الغربية الإمبريالية، في إطار “حربها البَارِدَة” ضِدَّ المُعَسْكَر الشَرْقِي “الاشتراكي”، أن ما جرى في الاتحاد السُّوفْيَاتِي، وفي الصِّين، خلال قرابة السِتِّين سنة الماضية، هو التطبيق الوَفِيّ لنظريات كارل ماركس. وعلى عكس ذلك، يَـقْدِر كل شخص مَوْضُوعي أن يُلاحظ بسهولة، عبر الرُّجُوع إلى التفاصيل وتعميقها، أن ما طُبِّـقَ في الاتحاد السوفياتي، وفي الصين، هو نَوْع من رَأْسَمَالِيَة الدولة، أو مِن الاستبداد الشُمُولِي، أو من النَّـزْعَة الاشتراكية البِدَائِية المُحَافِظَة، المُتَمَيِّزَة بكونها غير دِيموقراطية، وبكونها غير نَـقْدِيَة، وغير جَدَلِيَة. حيث اِكْتَـفى الاتحاد السوفياتي، والصين، على استبدال الملكية الخَاصّة بالملكية العُمُومِيَة، دون تغيير الإنسان، وَتَثْـوِيرِه، وتحريره من “الاِسْتِلَاب” (aliénation). فَـمَا طُبِّـقَ في الاتحاد السوفياتي، وفي الصّين، خلال قرابة السِتِّين سنة الماضية، هو مُجَرّد تأويل مُغْرِض، أو تحريف سافر، لنظريات كارل ماركس. وقد شرح إريك فروم أنه «بينما كانت نظرية ماركس تمثّل نقدًا للرأسمالية، كان كثيرٌ من أنصار مَاركس مُتَشَرِّبِين، بِعُمق، بروح الرأسمالية، إلى درجة أنهم فسّروا فكر ماركس على ضوء التصنيفات المادّية والاقتصادية، السّائدة في الرأسمالية المعاصرة. وظنُّوا أن الاشتراكية ليست مجتمعًا مختلفًا إِنسانيًا عن الرأسمالية، بل شَـكْلًا من الرأسمالية الذي تحصل فيه الطبقة العاملة على مكانة اِجتماعية أرقى»(1).

(1) إيريك فروم، مفهوم الإنسان عند ماركس، نشر 1998، دار الحصاد، الصفحة 21.

أََتَّـفِقُ مع المُفكّرين الذين أَكَّدُوا على وُجُود فَرق كَيْـفِي بين فَتْرَة قِيَّادَة افْلَادِيمِير لِينِين، وفتـرة قِيَّادَة جُوزِيفْ اسْطَالِين. فَلَمْيُطَبِّـق تِيَار جُوزِيفْ اسْطَالِين فِكر كَارْل مَارْكِس، ولَمْ يُوَاصِلُ مَنَاهِجَافْلَادِيمِيرْ لِينِين. بلتُشَكِّلُ مَنَاهِج اسْطَالِينوسُلُوكِيَّاتِه قَطِيعَة تَامَّة مع مَاركس، ومع لِينِين.
وكثير من المُنَاضِلِين اليساريّين ظَنُّوا أن ما قام به جوزيـف اسطالين هو تَـنْـفِـيذٌ أَمِينٌ لِفِكْر افْلَادِيمِير لِينِين. وأن اللِّينِينِيَة تُؤَدِّي بالضرورة إلى السْطَالِينِيَة.وهذا اعتـقاد خاطئ. وفي تَـقْرِيرٍ عن قراءته لِكِتَاب لَارْسْ لِيهْ (Lars T. Lih)(2)، أشار بُولْ بْلَاكْلِيدْجْ (Paul Blackledge) إلى أن العَامَّة مِن الناس تَحْمِلُ تَصَوُّرًا مُبَسَّطًا، وَمُبْتَذَلًا، عن إِلِيتْشْ لِينِين، وَعَن الْلِّينِينِيَة. وَتَظُنُّ العَامَّة أن «لِينِين كان يَحْتَـقِرُ القُدُرَات الفِكرية لِأَفْرَاد الطبقة العاملة»، و«أنه كان يُصِرُّ على بِنَاء حِزب مُكَوَّن مِن الثَّـوْريين المُحْتَرِفِين»، و«أن هذا الحزب هو الذي سَيَجْلُبُ الأفكار الاشتراكية مِن خَارج، إلى داخل، الطبقة العاملة»، و«أنه سَيَـقُودُ هذه الطبقة العاملة مِن القِمَّة نَحْوَ الأسفل»(3). وَزَعَمَت العَامَّة أن لِينِين دَافَعَ على تَصَوُّر لِلحزب على شكل «بِنْيَة هَرَمِيَة»، وعلى شكل «مَجموعة من “العُلماء” الذين ينشرون معارفهم العلمية، من الأَعْلَـى إلى الأَسْفَل، في اِتِّجَاه العُمال». وهذه التَصَوُّرَات النُخْبَوِية، وغير الديموقراطية، تَرْجِع إلى الأُسْطُورة التي رَوَّجَهَا أَلِيـكْـسَـنْـدَرْ زِينُوفْيِيـف (Alexandre Zinoviev)، واسْطَالِين (J. Staline)، وكذلك بعض المُثـقَّـفِين الْلِّيبِيرَالِيِّين الغَرْبِيِّين، عن إِلِيتْشْ لِنِين، وعن الْلِّينِينِيَة. وهذه التَصَوُّرَات لَا تَنْبَنِي على أساس مَرَاجِع لِينِينِيَة مُوَثَّـقَة بِدِقَّة. بَلْ تَنْسَجِمُ هذه التَصَوُّرات أكثر مع النزعة السطالينية، وليس مع فِكْر لِينِين. وهذه التَصَوُّرَات السْطَالِينِيَة لِلحزب تَتَنَاقُضُ مع المَضْمُون الْلِّينِينِي الثَوْرِي لِلحزب. وأفكار لِينِين هي أكثر تَـعْـقِيدًا، وَدِقَّة، وَجَدَلِيَّةْ، وَمُرُونَةً، وَثَرَاءً، بِالمُقَارَنة مع الأفكار المُبَسَّطَة، والمُطْلَقَة، لَدَى جُوزيـف اسْطَالِين. وَتَتَنَافَـى تلك التَصَوُّرَات السَّابِقَة مع الأطروحة الماركسية التي تَـعْنِي أنه لَا يُمكن أن تَتَحَـقَّـقَ الاشتراكية إلا إذاسَهَرَت الطبقة العاملة على تَحْرِير نَـفْسِهَا بِنَـفْسِهَا، بِدُون زَعِيم، وَلَا نِيَّابَة، وَلَا وَسَاطَة.

وَفي رَدِّه على بعض الاشتـراكيين الذين يَرْغَبُون في الـقَطْعِ مع كلّ أَنْمَاط «الـقِيَادة السُّلْطَوِيَة»، أو «النُخْبَوِيَة»، أَشَارَ لَارْسْ لِيهْ (Lars T. Lih)(4) إلى أن الأُطْرُوحَة الـقائلة «إن الاشتـراكية هي التحرير الذَّاتِي لِلطبقة العاملة»(5)، لَا تَتَـنَاقَضُ بِالضَّرُورة مع «الطَلِيـعِيَة» (leadership)، أو مع وُجُود «نُخْبَة» (élite). وَقد أَوْضَح أَنْطُونْيُو غْرَامْشِي (Antonio Gramsci) أن «الـقِيَادِيِّين يَنْـقَسِمُون إلى قَادَة دِيمُوقراطيّين، وقَادَة غير دِيموقراطِيّين. وفي مَيْدَان تَكْوِين القَادَة، تُوجَد فَرَضِيَة أساسية، وهي : هل النِـيَة هي أنه يجب أن يُوجَدَ دائمًا قَادَة وَمَـقُودِين، أم أن الهدف هو خَلْق الظُّرُوف التي تَجْعَلُ هذا التَـقْـسِيم بين الـقَادَة والمَـقُودِين غَيْر ضَروريّ؟»(6). وما دُمْنَا نُدرك مُسْبَـقًا أن بعض الانحرافات السياسية سَتَظْهَرُ حَتْمًا خلال مُختلـف تجارب بِنَاء الاشتراكية، فإن الحَلّ هو أن نكون مُنْتَبِهِين، وَمُستـعدّين لِمُلَاحَظَة هذه الانحرافات في حِينِ ظُهُورِهَا، وَالوَعْي بها، وَنَـقْدِهَا، وَتَـقْوِيمِهَا، بِجٍُرْأَة، وَبِإِصْرَار. وفي نـفس الوقت، يجب علينا أن نَحْرُصَ على أن نَـظَـلَّ لَـبِـقِـيـن، وَمَـرِنِـيـن، وبدون أَيِّ تَطَرُّف مُسْتَلَب. والمَطْلُوب مِنَّا هو عدم التَـفْرِيط في المَضْمُون الثوري وَالتَحَرُّري. لِذَا كان لينين حَرِيصًا على احتـرام الديموقراطية داخل الحزب.

(2) Lars T. Lih, Lenin Rediscovered :What Is To Be Done ?, Leiden, 2006.

(3) Paul Blackledge, Une relecture de ‘Que faire?’ de Lenine, Édition 2007, p. 3 de 27 pages. Source : https://www.cairn.info/revue-nouvelles-fondations-2007-3-page-219.htm

(4) لَارْسْ لِيهْ، المصدر السابق، الصفحة 556. Lars T. Lih, Lenin Rediscovered :What Is To Be Done ?, Leiden, 2006.

(5) “Le socialisme est l’auto-émancipation de la classe ouvrière”.

(6) Cité par Paul Blackledge : Gramsci in A. Shandro, «Lenin and Hegemony : the Soviets, the Working Class and the Party in the Revolution of 1905», in C. Barker et al., «Leadership Matters», in C. Barker et al. (éds), Leadership and Social Movements, Manchester, 2001.

وكانـت فتـرة قـيادة لِينين تَتَمَيَّزُ بِهَيْمَنَة طبقة البروليتاريا على المُجتمع، وبالدّور الأيديولوجي القـيادي للبروليتاريا، وبالدور السياسي القـيادي لحزب البروليتاريا، وَبِتَمٍَرْكُز تَوَاجُد الـقِوَى الثورية والمُبادرة داخل حزب البروليتاريا(7). وكان أفراد الجيش والبوليس، نـتيجةً للعمل السياسي الثوري الطويل، يرفضون توجيه فَوْهَات أسلحتهم نحو صُدور الكادحين والثوريّين. أما خِلَال فَـتْـرة قِـيّادة جُوزيـف اسطالين وأنصاره، فكانـت تَتَمَـيَّـزُ بِعكس ذلك. حيثُ كانـت فَتْرَة قِيَّادة اسْطَالِين تَتَّسِمُ بِتَهْمِيش طبقة البروليتاريا، وَبِـإِخْضَاعِهَا. وكانـت فَتْرَة قِيَّادة اسْطَالِين تَتَّصِفُ بِـتَـعْوِيض قِيَّادَة الطبقة العَامِلة بِهَيمنة فئة بِيرُوقْرَاطِيَة الحِزب الحَاكم (Nomenklatura). وَأَصْبَحَت في عَهْد اسْطَالِين أيديولوجية جديدة وغريبة هي التي تُـهَيْـمِـنُ عن البروليتاريا. وَتَصَاعَدَت ظَاهِرَة هُرُوب المناضلين الثوريّين من الحزب الحاكم. وفي عهد اسطالين، اِنْـتَـفَـى الدّور القـيّادي لطبقة البروليتاريا. وحتّى الدَّوْر الـقِيَادِي لحزب البْرُولِيتَارْيَا تَمَّ تَـعْـوِيضُه بِزَعَامَة رَئِيس الحِزْب الشِيُوعِي. وأصبح أفراد الأجهز الـقمعية يُوجّهون أسلحتهم، وبدون حرج، ضدّ الكادحين، وضدّ المناضلين الثوريين. فَعَمَّ المُجتمعَ إرهابٌ من نوع جديد، هو إرهاب الدولة.

(7) Charles Bettelheim, Les luttes de classes en URSS, 1ière période 1917-1923, Éditions Seuil-Maspero, Paris, 1974, p. 79.

ونلاحظ أن مُجمل القادة السياسيين الذين أَغْنَوْا«الماركسية»،بِالنَظَرِيَة أوبِالمُمَارَسَة، كانوا، في نـفس الوقت، مناضلين، ومُثـقَّفِين، وَفَلَاسِفَة، وعُلَمَاء (مثل مَارْكِس، إِنْجَلْس، لِينِين، مَاوُو، هُو شِيمِينْ، إلى آخره). أمَّا جُوزِيفْ اسْتَالِينْ، فَلَمْ يكن ضُعْفُ ثـقافته(8) يسمح له بِاسْتِيعَاب الجوهر الثوري، والتحرّري، والإنساني، الموجود في الماركسية، فبالأحرى أن يسمح له بتطويرها. ولم يَكن اسْطَالِين مُثـقّفا مُعَمَّـقًا، ولَا فيلسوفًا ثَاقِبًا. ولم يكن اسْطَالِين يَتـفَوَّقُ لَا بالثـقافة الواسعة، ولَا بالوُضُوح النظري. بل كان اسْطَالِين يَتَطَـفَّلُ على العُلُوم (حَدَثَ ذلك مثلًا عبر تدخّله الفَجِّ في الصِّراع فيما بين أطروحات عِلْمية في ميدان البَيُولُوجِيَة). وقد نُشِرَت قرابة 13 كتابا(9) مَنْسُوبَة إلى جُوزِيف اسْطَالِين، في مجالات الفلسفة، والاقتصاد السياسي، والتاريخ، والاستراتيجية، واللِّسَانِيَّات، إلى آخره. وأشكُّ شَخْصِيًّا في أن تكون هذه الكتب حقيقةً من إنتاج جوزيـف اسطالين. لأن هذه الثـقافة المُتَضَمَّنَة في هذه الكتب، لم تكن ظاهرة في سُلُوكِيَّات اسْطَالِين. ولأن تاريخ النـقاشات السياسية، والصراعات الـفِكرية، التي دَارَتْ في روسيا قَبْل وصول اسطالين إلى مَوْقِـع السّلطة السياسية، لم يُسَجِّل أن اسْطَالِين كان حقيقةً من بين المُفَكِّرين أو المُثـقَّـفِين المرموقين. ولأنه لَا يُعقل أن شَخصًا مثل اسْطَالِين، قبل وُصُوله إلى السُّلطة، لم يسبق له أن نشر مقالات أو دراسات نظرية، مَشْهُود بجودتها لدى مُنَافِسِيه المفكّرين، أن يتحوّل فجأةً، بعد فرض سيطرته المُطلقة على الحزب الحَاكِم، إلى أَرْقَى أو أعظم كَاتب في مُجمل الاتحاد السُّوفْيَاتِي. ولا يُعْقَل مثلًا أن يكون الشخص الذي أَلَّفَ كتابًا يحمل عنوان «الإنسان هو الرأسمال الأكثر قِيمَةً»، وكتاب «من أجل حياة جميلة وسعيدة»، هو نـفس الشخص الذي أمر بِاضْطِهَاد وبِِسَحْق ملايين البشر، وحتى بسجن أو بإعدام غالبية النُخَب السياسية والمثـقّـفة في حِزبه، وفي رُوسْيَا. والاحتمال الأكبر هو أن اسْطَالِين كان يَأمُر خُدَّامه المُثـقَّـفِين بأن يكتبوا له الكتب التي كان يحلمُ بها، مُقَابل أجرة، ثم يَنْسُبُهَا بدون حَرَج إلى نـفسه. خاصَّةً وأن غُرُور اسْطَالِين كان بِلَا حدود.

(8) سنرى في الأجزاء الآتية من هذا النَصِّ الحُجج التي تُثْبِتُ ضعف ثـقافة اسْطَالِين.

(9) الكتب المنسوبة لِجُوزِيف اسْطَالِين: «الفوضوية أو الاشتراكية؟»؛ «الماركسية والمسألة الوطنية والاستعمارية»؛ «مبادئ اللينِينية»؛ «قضايا اللِّينِينِية»؛ «الإنسان هو الرأسمال الأكثر قيمة»؛ «تاريخ الحزب الشيوعي البَلْشفِي»؛ «المادية الجدلية والمادية التاريخية»؛ «بعد الانتصار، السِّلْم الدَّائِم»؛ «الماركسية ومشاكل عِلْم اللِّسَانِيَات»؛ «المشاكل الاقتصادية في الاشتراكية في الاتحاد السُّوفياتي»؛ «كُتَيِّب الاقتصاد السياسي»؛ «حول الحرب الكبرى للاتحاد السوفياتي»؛ «تاريخ الثورة الروسية» في أربعة أجزاء؛ «الشبيبة الشيوعية»؛ «لِينِين»؛ إلى آخره.

وكان اسْطَالِين عُضوًا في حزب البَلَاشِفَة الروسي منذ سنة 1903. لكن دوره في ثورة أكتوبر 1917 كان هَامِشِيًّا، إلى حدّ أنه لم يكن يُذْكَر. ولم تَـكُن قُوّة اسْطَالِين تأتي من ثـقافته، ولَا من عُلُومِه، ولَا من اسْتِيعَابِه للفلسفة الماركسية، ولَا من سِعَة وَعْيِه، ولَا من قُدرته على التَنْظِير، وَلَا من اِبْدَاعِه لِأَفكار أو مفاهيم أو تصوّرات جديدة، وَلَا من خِبْرَته في اِسْتِشْرَاف المُستـقبل. وإنما كانت تأتي من سَيْطَرَتِه على جِهَاز التَنْظِيم الحِزْبِـي، وَمِن دهائه السياسي الخَفِيِّ، ومن تَحَايُلِه المُسْتَـتِر، ومن براعته في اكتساب عَطْفِ أو مُسَانَدَة الأطراف القوية في الحزب. ولَمَّا اِنْتَبَه لِينِين (في آخر حياته) إلى خُطورة تَسَلُّق جُوزِيف اسْطَالِين للأجهزة القيادية في الحزب الشيوعي، اِعترض لِينِين على وُصُوله إلى المسئوليّات الرئيسية في الحزب، وفي الدولة. لكن الْأَوَانَ كَان قَدْ فَاتَ. حيث أن مرض الدِّمَاغ الذي أصاب لِينِين فَرَضَ عليه التَنَحِّي من الحزب. وكان اسْطَالِين يعرف أن لِينِين يعارض وصول اسْطَالِين إلى أعلى سلطة في الحزب. لكن اسْطَالِين استطاع جمع الأصوات الـلَّازِمَة لكي يَغْدُوَ، في سنة 1922، هو الكاتب العام لِلَّجْنَة المركزية للحزب الشيوعي. وبِدَعْوَى تَوفير ظُروف الرَّاحة والاِسْتِشْفَاء إلى لِينِين، وَضَعَ اسْتَالِينُ لِينِينَ في عُزْلَة تَامَّة. وكانت عُزْلَة لِينِين بمثابة تَصْفِيَة مُبْـكِرَة ومُسْتَتِر له. ثم تُوفِّيَ لِينِين في سنة 1924. وكان اسْطَالِين مُتـفَوِّقًا في مجالات عَزْل مُعَارضيه، وتهميش مُنَافسيه، وحتّى تصفية خُصومه السياسيين. واستـطاع اسْطَالِين أن يفرض سَيْطَرَةً شخصيةً مُطلقةً على الحزب الشيوعي.

وكُلّ حزب شيوعي، أو اشتراكي، يقبل بأن يكون المسؤول الرئيسي فيه شخص من صِنـف جُوزِيف اسْطَالِين، بِمَعْنَى شَخْص يَـفْتَـقِرُ إلى الثـقافة، والعَـقْلَانية، والعُلُوم، والأخلاق، سيكون حزبًا غير مُنْتَبِه، بل مُتَخَلِّف. ومَآل هذا الحزب سيكون هو الإفلاس السياسي.

وهذا الحدث يُذَكِّرُنَا بِإِشْكَالِيَة عَتِيقَة تناولها مثلًا حُكَمَاء اليُونَان القَدِيمَة. وهي: ما الذي ينبغي القيام به لِكَي يكون الحُكَّامُ فَلَاسِفَةً، والفلاسفةُ حُكَّامًا؟ فإلى حَدِّ اليوم، لَا نـعرف بِدِقَّة كيف نمنعُ الأشخاص الجُهَّال، أو المُسْتَلَبِين (aliénés)، أو الانتهازيِّين، من الوصُول إلى مناصب الـقرار، أو السُّلطة، أو الحُـكم؟ وكيف نُشَجِّع العُلَمَاء، والفَلَاسِفَة، والحُكَمَاء، على تحمّل مسؤوليّات سياسية مركزية؟

ونتذكَّر أن مَارْكِسْ، أو لِينِين، حينما كانا يُلاحظان أن جزءًا من المناضلين يَخْتَلِفُ معهما في الرَّأي، في قضية سياسية مُحدّدة، كَانَا يَلْجَآن إلى إِعْدَادِ دِرَاسَة مُعَمَّـقَة، تحتوي على حُجَج عِلْمِيَة، أو عَقْلَانِيَة. وتستطيع هذه الدّراسة أن تُـقْنِعَ حتى الأشخاص الذين يرفضون أن يَـقْتَنِعُوا. بَيْنَمَا كان مَنْهَجُ جُوزِيفْ اسْطَالِين يعتمد على مَنْهَج مُعَاكِس. حيث كان اسْطَالِين يَعْزِلُ مُنْتـقِدِيه، ويُهَمِّشُ مُعارضيه، ثم يَتَّهِمُهم بِتُهَم جِنَائِيَة خطيرة، ويَحكم عليهم بالإعدام، عبر استغلال بِيرُوقْرَاطِيَة الحزب، وعبر استعمال الأجهزة المُخَابَرَاتِيَة،والفِرَق البُولِيسِية(10)، وجهاز القضاء المُنْحَاز،والمُحاكمات المَغْشُوشَة.

(10) الأجهزة البُوليسية المشهورة المُتَعَاقِبَة هي: اتْشِيكَا (Tcheka)، الجِيبِيأُو (Guépéou)، إِنْكَافِيدِي (NKVD).

وفي جوهره، لم يكن جُوزِيف اسْطَالِين لَا مَاركسيًّا، ولَا اشتراكيًّا، وإنما كان مَاكْيَافِيلِيًّا (machiavélique). وكانت غايته الأساسية هي غَزْوُ السُّلطة السياسية. وكان اسْطَالِين مَهْوُوسًا بشكل مَرَضِي باكتساب السلطة واحتكارها. وهذه المسألة تطرح إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق(11). وعلى عكس الكثير من الظُّنُون، لا يمكن لأي عمل سياسي، أو نضالي، أوثوري، أن يكون نَبِيلًا، ومقبولًا، إلَّا إذا كان مُلْتَزِمًا بالأخلاق، وبالعَدْل، وبالقِيَم الإنسانية. أما سُلُوكِيَّات الغِشُّ، أو التَحَايُل، أو الخِدَاع، أو النـفَاق، أو الانتهازية، أو الظُّلم، أو الإجرام، فكلّها تتناقض مع الماركسية، ومع الاشتراكية. ومآلها النهائي هو الفشل.

(11) تناول رحمان النوضة موضوع العلاقة بين الأخلاق والسياسة في عدّة وثائق. أبرزها: كتاباه باللغة الفرنسية (Le Politique)، و (L’Éthique politique)، وكذلك في مقاله المُـعَنْوَن بِـ : “العلاقة بين الأخلاق والسياسة”. ويمكن تنزيل هذه الوثائق من مدوّنة الكاتب (https://LivresChauds.Wordpress.Com).

وفي الاتحاد السوفياتي، تحت حُكْم جُوزِيف اسْطَالِين (بين سنتي 1924 و 1953)، حَدَثَت الكثيرُ من المُمَارسَات السياسية المُنْحَرِفَة. وبعد موت جُوزِيف اسْطَالِين في سنة 1953، خَلَفَهُ أَحَدُ تَلَامِذَته: نِيكِيتَا اخْرُوشْتْشُوفْ. ودام حُكْمُ اخْرُوشْتْشُوفْ من 1953 إلى 1964. وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السُّوفْيَاتِي في سنة 1956، فَضَحَ اخْرُوشْتْشُوفْ أساليب اسْطَالِين القَمعية، وَاِنْتـقَدَ سُلُوكِيَّاته الاستبدادية، ونَدَّدَ بِجَرَائمه التي لَا تُعَدُّ. لكن ذلك التَنْدِيد لم يكن كَافِيًّا. واعترفَ اخْرُوشْتْشُوف أنه هو نـفسه، كان مِن قَبل يُساند الـقَـمْعَ الذي كان يُمارسه اسْطَالِين، وكان يشارك في تنـفيذه، وذلك خوفًا من عُنـف اسطالين. وفي المؤتمر 22 للحزب الشيوعي السوفياتي، قرّر المؤتمر إعادة الاعتبار لبعض الضحايا البارزين الذين أُعْدِمُوا ظُلْمًا تحت حُكم اسْطَالِين. وحاوَل اخْرُوشْتْشُوف تَمْرِير بعض الإصلاحات الاقتصادية اللِّبيرالية، للتَّخْفِيف من الأزمة الاقتصادية. لكن بيروقراطية الحزب أفشلتها [مثلما أن بعض البَلَاشِفَة، نَاهَضُوا «السياسة الاقتصادية الجديدة» (NEP) الْلِّيبِيرَالِيَة التي وضعها لِينِين في سنة 1921]. ثمّ تآمرت بيروقراطية الحزب الشيوعي ضدّ اخْرُوشْتْشُوف، ونَحَّتْه من السلطة في سنة 1964. وَتَدُلّ تَنْحِيَّة اخْرُوشْتْشُوف دون قتله (من طرف بيروقراطية الحزب) على أن المناهج السْتَالِينِية قد تَـقَلَّصَت، أو زَالت نسبيًّا، من الحزب. ولو كان اخْرُوشْتْشُوفْ اسْتَالِينِيًّا مثل اسْطَالِين، لَمَا تجرَّأ أحد على مُخالفته. فكان اخْرُوشْتْشُوفْ هو أوّل من ناضل من أجل التخلّص من المناهج السْتَالِينِية (déstalinisation)، وكان أيضًا هو أوّل “ضَحِيَّة” لِمَا قام به. الشيء الذي يُؤَكِّد أنه نجح نسبيًّا في مهمّته. ولو أن ذلك التنديد بالسْطَالِينِية في الاتحاد السُّوفياتي بَـقِـيَ غير كَاف.

وفي سنة 1985، حاول من جديد مِيخَائِيل غُرْبَاتْشُوفْ تَصْحِيح امْتِدَادَات ومُخَلَّفَات السِّيَاسات “السْتَالِينِيَة” (stalinisme). وحاول إصلاح الاقتصاد السُّوفْيَاتِي المُتَهَالِك عبر سَنِّ “سياسة اقتصادية جديدة” (NEP). ثمّ بَادَرَ إلى إطْلَاق سياسة “الشَّفَافِيَة” (الجْلَاسْنُوسْتْ، Glasnost). ودَافَع عن سياسة “إِعَادَة الهَيْكَلَة” (البِيرِيسْتْرُوِيْكَا، Perestroïka). لكن أجهزة الحزب الشيوعي لم تكن ناضجة لِفَهْمِ، أو لِإِنْجَاح، أو لِتَطْوِير، أو لِإِغْنَاء، هذه الإصلاحات. بل سَاهمت في إفشالها. فكان مصير الاتحاد السوفياتي هو السَّيْرُ نحو الانهيار الشَّامِل، بين قرابة سنتي 1989 و 1991. ورغم ذلك، مَا زال الانْبِهَارُ بِجُوزِيفْ اسْطَالِين، أو تَمْجِيد شخصيته، قويَّيْن إلى حدّ اليوم، لدى بعض مُنَاضِلِـي اليسار. ورُبَّما لو كان شَخص آخر مِثل تَرُوتْسْكِي، أو كَامِينْيِيفْ، أو زِينُوفْيِيفْ، أو بُوخَارِين، أو غيرهم من بين أطر الحزب المُحَنَّكَة، هو الذي خَلَفَ لِينين، بدلًا من اسْطَالِين، لَمَا حدثت بعض الحَمَاقَات، أو الجرائم القمعية، التي أَشْرَفَ عليها اسْطَالِين ومُنَاصِرُوه. لكن التاريخ غالبًا ما يُفاجئنا بتطوّرات لا يـقدر خيالنا البشري على تَوَقُّعِهَا.

وقد نَمَت داخل الاتحاد السوفياتي فئات طبـقية مُسْتَـغِلَّة، وسائدة، من صنـف جديد. وَفَرَضَت هذه الفِئَات الابتعاد عن مناهج الثورة الاشتراكية، والرجوعَ إلى الوراء، مِن “رأسمالية الدولة الوطنية لِذَاتِهَا” إلى صِنـف مُسْـتَـتِـر من الرأسمالية. وتُوجَدُ أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي على الخُصوص في تـفاصيل تاريخ الصِّراع الطبقـي الذي جَرَى داخل هذا الاتحاد السُّوفْيَاتِي.وَلَا تَـعُود أسباب انهيّار الاتحاد السُّوفْيَاتِي إلى نـقَائِصَمُفْتَرَضَة في النظرية الماركسية. الشيء الذي لَا يُلْغِي احتياج الماركسية إلى مُرَاجَعَة، ونـقد، وتطوير، وإغناء، وإبداع.

وقد طرح بعض الباحثين في الغرب أن الأسباب الرئيسية لانهيار الاتحاد السوفياتي تَكْمُنُ في مُغَامَرة احتلاله لِأَفْغَانِسْتَان، أو في محاولة منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في مجال سِبَاق ”حرب النُجُوم“. وفي رأيِي، حتى لَوْ لَمْ يدخل الاتحاد السوفياتي إلى أفغانِستان، وحتى لو لم يدخل في سِبَاق ”حرب النجوم“، فإن التناقضات الداخلية في نظام الاتحاد السوفياتي بَلَغَتْ حَدًّا كافيًا وحَاسِمًا من الاِخْتِمَار لكي تُؤَدِّيَ به إلى الانهيار، سَوَاءً في سنة 1991، أو في وقت لَاحق.

ولمّا اِحْتَدَّ الصراع الأيديولوجي بين الصين والاتحاد السوفياتي، خلال سنوات 1970، بدأنا (في “تنظيمات الحركة الماركسية اللِّينِينية” بالمغرب) نَشُكُّ، أو بدأنا نـفهم، أن الاشتراكية فيها دَرَجَات، أو أنواع، أو مَرَاحِل. وبدأ بعضنا يَظُنّ أن بناء الاشتراكية يَـفْتَرِضُ نوعا من التلاؤم مع واقع المجتمع المعني، ومع مُستوى تـقدّمه. وبدأنا نُدْرِك أن تشييد الاشتراكية يمكن أن ينحرف بسهولة عن الطريق السليم. الشيء الذي لم نكن نعرفه من قبل. وبدأنا نـفهم أن الحزب الشيوعي، أو حزب الطبقة العاملة، لا يتطابق، أو لا ينسجم، بالضرورة، مع هذه الطبقة العاملة. ولاحظنا أن كثيرًا من الأحزاب تدّعي أنها هي «حزب الطبقة العاملة»، دون أن تكون هي فعلاً الحزب الحقيقي لهذه الطبقة. وتعلّمنا أن بعض الأحزاب الشيوعية تستطيع أن تَتَصَرَّف كَوَصِيٍّ على الطبقة العاملة، بينما مُمارستها تَضُرُّ بِـ، أو تتعارض مع، المصالح الاستراتيجية للطبقة العاملة. وحتى إذا كان الحزب الشيوعي هو حزب الطبقة العاملة (من حيث انتماء جزء من أعضائه إلى العُمَّال)، فَمِنْ الممكن أن يتحوّل هذا الحزب إلى نـقِيضِهِ، أو إلى شيء آخر. وبدأنا نَسْتَوْعِبُ أنه بالإمكان أن ينحرف حزب الطبقة العاملة، أو أن ينهج سياسة غير ثورية، أو غير اشتراكية، أو غير ديمقراطية، إلى آخره.

وبعد انهيار الاتحاد السّوفياتي من جهة أولى، ومن جهة ثانية بَعْدَ تَنَامِي قوة الصِّين، اِتّضَح أكثر مِمَّا كان في السَّابق، أنه خلال مرحلة الانتـقال من الثورة الديموقراطية البرجوازيةإلى الثورة الاشتراكية، لَا بُدَّ من المُزَاوَجَة، في نـفس البلد الاشتراكي، بين اقتصاد اشتراكي واقتصاد رأسمالي مُتَحَكَّم فيه. (وسنعود فيما بعد لِهذه الإِشْكَالِيَة، في الجزء الخاص بِتجربة الصِّين).

ومن مِنْظَار نظرية المادية الجدلية، يمكن لأي فاعل سياسي أن يتحول إلى نـقِيضِهِ. ويمكن للدولة، أو للطبقة العاملة، أو للحزب الشيوعي، أو لحزب البروليتاريَا (في حالة وجوده)، أو للقيادة، أو للزّعيم، يمكن لأي واحد من هؤلاء الفاعلين السياسيين أن يتطوّر إلى نـقِيضِه، على مستوى الفِكر، أو الوَعي، أو السُّلوك. ويمكن حتى لِلسُّوفْيِيتَات (soviets) (أي لِجَان الكادحين) أن تتحوّل إلى نـقِيضِهَا.

ورغم كل السَّلْبٍيَات التي كانت موجودة في تجربة الاتحاد السوفياتي، والتي نـقِرُّ بها، ولا نُخْفِيهَا، فإن هذه التجربة ستـظلّ غنية بالدروس لكل البشرية. وعوض أن نـقول: «انهار الاتحاد السوفياتي، ومَاتَتْ معه الاشتراكية، والماركسية»، وانتهى الموضوع، على عكس ذلك، يلزم أن نُـفَكِّر أن الماركسية أَلْهَمَت تجارب ”اشتراكية“ تاريخية، أَوَّلِيَة، ومُعقّدة، وغَنية. ومن واجب العُلَمَاء (الماركسيين) أن يدرسوا كلّ هذه التجارب التاريخية، بِدِقَّة عِلْمِيَة، لكي يستخلصوا منها كلّ الدروس الحَاسِمَة في مصير البشرية.

ولَوْلَا قوّة النظرية الماركسية، لما حدثت بعض التحوّلات الجذرية في العالم. ومن أبرزها ظُهور مَوْجَات طُمُوح جَماهير وشُعُوب عريضة إلى الانعتاق من أشكال مختلفة من الاضطهاد، كالاستعمار، وهيمنة الإمبريالية، والاستغلال الرأسمالي، إلى آخره. وحتّى جزء من الحقوق الديمقراطية التي انتزعها الكادحون في البلدان الرأسمالية الغربية، كان انتزاعها في إطار «الحرب الباردة» بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وتحت تأثير وضغط المُكتسبات المُحَـقَّـقَة في بعض البلدان الاشتراكية (كمشاركة النساء في الانتخابات، والعُطلة السَّنوية، والتَغْطِيَة الصِّحِيَة، إلى آخره). وقد كان الاتحاد السُّوفياتي بمثابة مُخْتَبَر لكل البشرية. وقد لعب الاتحاد السوفياتي دورًا حَاسِمًا في هزم النظام الألماني النَّازِي، والتوسّعِي، لِأَدُلْفْ هِتْلَرْ، إبَّان «الحرب العالمية الثانية». وسَاهَمَت الماركسية في ظهور، وفي تحرّر، وفي تـقدّم، بَلَدَين عُظْمَيَيْن (هُمَا رُوسيا والصِّين)، كانتا قبل سنة 1917 في تخلّف يُذَكِّرُ بِالإِقْطَاعِيَة، وَبِالقُرُون الوُسْطَى. وأصبح هذان البلدان يُحْسَبَان اليومَ ضِمْنَ القِوَى العالمية العُظمى، وذلك لعدّة أسباب، من ضمنها الاستـفادة من النظرية الماركسية.

2.4 – ألـيـس الـتَـسَـرُّع، وَحَـرْق الـمـراحـل، في إنـجـاز مـهـام الـثـورة، خـطـأً فَـادِحًـا ؟

في 25 أكتوبر 1917، اِسْتَوْلَت مجالس السُّوفْيِيتَات (soviets) على السُّلطة السياسية في رُوسْيَا. وحاولت قيادة الثورة أن تسْتَرْشِدَ بِمَبَادِئ الثورة الماركسية. لكن هذه الثورة لم تكن مُجرّد تطبيق آلِي لِنَظَرِيَّة، أو لِبَرْنَامَج، مُحَدَّدَيْن بِشكل مُسْبَـق. بل كانت قيادة الحزب الشيوعي البَلْشَفِي مُجبرة بِاستمرار على التفكير، والبحث، والتَجْرِيب، والتَكَـيُّـف، مع تطوّرات الأوضاع المُتَلَاحِـقَة. وَلم تكن قيادة الثورة دَائِمًا مُحِـقَّة، بَل أخطأت في الكثير مِن القضايا. ومعنى ذلك أن النظام السياسي السُّوفْيَاتِي في روسيا، لم يستطع أن يكون هو التطبيق الصَّحِيح والكَامِل لِنظام سياسي اشتراكي مِثالي. وكان لِينِين حَذِرًا في مُبادراته، ونَاقِدًا في مُلاحظاته. وبدأت الثورة بِإِقَامَة نوع مِن “رأسمالية الدولة”. ومع أحداث الحرب الأهلية، وبعد الهُجومات الحربية التي كانت تَشُنُّهَا الدول الإمبريالية على الثورة، دخلت رُوسْيَا في «شِيُوعِيَة حَرْبِيَة» (communisme de guerre). وحاولت رُوسيا أن تُنْجِزَ «نظامًا جماعيا متكاملًا» (régime collectiviste intégral). وأمام الصُّعُوبَات أو الإِخْـفَاقَـات، اِضْطَرَّ لِينِين، في سنة 1921، إلى الرُّجوع بالحزب الشيوعي إلى «السياسة الاقتصادية الجديدة» (NEP). وهي نوع مِن الرُّجُوع الجُزْئِي الحَذِر إلى بعض الإجراءات الاِقْتِصَادية الرأسمالية. وتُوفِّيَ لِينِين في سنة 1924. وفي نهاية سنة 1927، لاحظ الحزب الشيوعي أن التوازنات الاقتصادية ليست جَيِّدة. وفي مُؤْتَمَره الخامس، قرّر الحزب الشيوعي العَمَل بالمُخَطَّطَات الخُمَاسِيَة (plans quinquennaux)(1).

بعدما انهار الاتحاد السوفياتي في قُرَابَة سنة 1989، يَتَبَادَر إلى الذهن هذا التَسَاؤُل الأول: لماذا حدث هذا الانهيار؟ ولَمَّا نُحِسُّ بصعوبة الجواب على هذا التساؤُل، يَتَرَاءَى في ذهننا تَساؤل ثان هو أقل صُعوبة: من أين أتى الاتحادُ السوفياتي، وأين وَصَلَ قُبَيْلَ انهياره، وإلى أين كان يَطْمَحُ الذهابَ إليه؟ ولم يسبق لي أن قرأتُ جوابًا واضحًا ومُرْضِيًّا عن هذا التساؤل. وبِالصُّدفة، قرأتُ مقتطفًا من مقال(2) كان لِينِين قد نشره قُبَيْلَ مرضه، في سنة 1921، بمناسبة الذكرى الرابعة لثورة 25 أكتوبر 1917. وكما عَهِدْنَاه، كان لِينِين في مقاله هذا وَاضحًا، جَدَلِيًّا، وشُمُولِيًّا. وبتلخيص كَبِير (وَلَوْ أن التَلْخِيصَ يُفْـقِدُ الدِقَّة) عن التساؤل الأوّل الذي هو: (من أين أتى الاتحاد السوفياتي؟)، أجاب لِينِين: «كانت المظاهر الأساسية في مُجتمع رُوسْيَا، قبل ثورة أكتوبر 1917، هي بَـقَايَا وآثَار القِنَانَة (عُبُودِيَة الأرض) (servage)، واستبداد المَلَكِية، والطَّوَائف (castes) الاجتماعية، ومِلْكِيَة الأرض، والتَمَتُّع بالأرض، ونُكْرَان حقوق المرأة، وهَيمنة الدِّين، واضطهاد القَوْمِيَات غير الرُّوسية، إلى آخره»(3).

وعن السؤال الثاني الذي هو: (أين وصلت الثورة في رُوسْيَا في سنة 1921؟)، أجاب لِينِين: «لقد خَلَقَ الفَوْضَوِيُّون، والدِيموقراطيون البُورجوازيُّون الصغار، أَيْ المَنَاشِفَة، والاشتراكيون الثوريون، خلقوا غُموضًا كبيرا حول العلاقة بين “الثورة الديمقراطية البورجوازية” و”الثورة الاشتراكية”، أي “الثورة البْرُولِيتَارِيَة”… ومضمون “الثورة الديمقرطية البرجوازية” هو التَحَرُّر من تـقَالِيد القرون الوُسْطَى، ومن القِنَانَة، ومن الإِقْطَاعِيَة (féodalisme) في العلاقات المُجتمعية (كَنِظَام، وكُمُؤَسَّـسَات)… لقد خُضْنَا “الثورة الديمقراطية البرجوازية” حتى نِهَايَتِهَا القُصْوَى، وأكملنا مهامّها أكثر من أية ثورة أخرى في العالم. حيث قُمْنَا بِحَذْف بَقَايَا القُرون الوُسْطَى بشكل جذري ونهائي، وكَنَسْنَا مَلَّاكِي الأراضي الكِبَار، وأنجزنا الإصلاحات الزراعية، وقُمْنَا بِتَنـقِية رُوسْيَا من هذه البربرية، ومن هذه الفضائح، التي كانت تُعِيقُ كل تَنْوِير، وتـفَرْمِلُ كل تَـقَدُّم في بلادنا»(4).

وعن السؤال الثالث الذي هو: (إلى أين كانت الثورةُ تُريدُ الذهابَ إليه؟)، أجاب لِينِين: «بِوَعي كامل، وبِخُطَى ثابتة، وبدون أيّ انحراف، نَسِيرُ إلى الأمام نحو “الثورة الاشتراكية البْرُولِيتَارِيَة”، مع العِلم أن “الثورة الديمقراطية البرجوازية” ليست مَفْصُولة عن “الثورة الاشتراكية” بحائط الصين العظيم، ومع العلم أن الكفاح وحده سَيُحَدِّدُ مِقْدَار الخَطَوَات التي سَنَنْجَحُ في إحرازها، كما سَيُحَدِّد الجزء من مُهِمَّتنا الذي سَنُنْجِزُهُ، وسَيِحَدِّد الجزءَ من انتصاراتنا التي سَنـقَوِّيها. وهي مهام أكبر بكثير من المهام القديمة. ومن سَيَعِيش، سَوْفَ يَرَى»(5).

ومن معاني مقتطفات مقال لِينِين السابق، أوّلًا، أن مَا كان يُنْجَزُ في رُؤسْيَا خلال سنوات 1921 هو مهام “الثورة الديمقراطية البرجوازية”، وليس مهام “الثورة الاشتراكية البروليتارية”. وثانيًّا، أن التَوَجُّه العام للنضال الثوري في رُوسْيَا، كان هو تَهْيِئ شُروط إنجاز وإنجاح مهام الثورة المُقبلة، والتي هي “الثورة الاشتراكية البروليتَارية”. حيث كتب لِينِين: كُنَّا «نَسِيرُ إلى الأمام نحو “الثورة الاشتراكية البْرُولِيتَارِيَة”». بِمَعْنَى كُنَّا نطمح إلى “الثورة الاشتراكية البروليتارية”، لكننا لم نَدْخُلْ مَرْحَلَتَهَا بعدُ، ولم نَبْدَأً بعدُ في إنجاز مهام هذه “الثورة الاشتراكية”.

واستـفادةً من كوننا نتكلّم مِنْ بَعد حُدُوثِ “انهيّار الاتحاد السُّوفياتي” في سنة 1991، يمكننا أن نَنْتـقِد لِينِين ورفاقه (وكذلك خَلَفَه اسْطَالِين)، على سياسة حَرْقِ المَرَاحِل، والتَسَرُّع في اعتبار مهام “الثورة الديمقراطية البرجوازية” مُنْجَزَة بالكامل، في ظرف زمني وجيز نسبيًّا. ونحن نَتـفَهَّم أن تهديد استمرارية الثورة من طرف أعداء كثيرين، من الداخل ومن الخارج، يَضْغَطُ في اِتِّجاه تَسريع وثيرة إنجاز مهام الثورة. لكن هذا الضغط لَا يُبَرِّر سياسة التَسَرُّع، أو حَرْق المراحل، في مجال إنجاز الثورة. وقد كتب لِينِينُ: «لقد خُضْنَا “الثورة الديمقراطية البرجوازية” حتى نهايتها القصوى، وأكملنا مهامّها…». بل أَكَّدَ لِينِين أن «قُرَابَة عشرة أسابيع، من 25 أكتوبر 1917، إلى تاريخ حلّ الهيئة التَّاْسِيسِيَة (Constituante) في 5 يناير 1918»(6) كانت كافية لإنجاز مهام “الثورة الديمقراطية البرجوازية”. وكان هذا التَـقْدِير السياسي يَتَضَمَّنُ، في (سنة 1921)، قَدْرًا من التَسَرِّع. لأنه، إذا كانت السلطة السياسية الجديدة في رُوسْيَا قد قَرَّرَت عدّة إجراءات ثورية، وَسَنَّتْ عدّة قوانين (تدخل ضمن مهام “الثورة الديمقراطية البرجوازية”)، فإن مُرُور، ليس فقط 10 أسابيع، بَلْ حتّى أربعة سنوات، على بداية ثورة أكتوبر 1917، لَم يكن كافيًّا لِكي تتحوّل هذه القرارات، أو الإجراءات الثورية، إلى واقع مُجتمعي عَمِيق، ورَاسِخ. لأن زَمَان تطوّر المُجتمع، هو أَبْطَأُ بكثير من زَمَان قرارات السلطة السياسية. ومن المُسْتَبْعَد أن المهام التي حدّدها لِينِين، مثل «التخلّص من تـقاليد القرون الوسطى»، ومن «عُبُودِيَة الأرض» (servage)، ومن «تأثير الإقطاعية في العلاقات المُجتمعية»، ومُخَلَّفَات «المَلَكِية المُستبدة»، و«الطَوَائِف» (castes)، و«وضعية المرأة»، و«هيمنة الدِّين»، و«اضطهاد القوميات»(7)، من المُسْتَبْعَد أن يَكْتَمِل إنجاز هذه المهام خلال «عشرة أسابيع». هذا غير واقعي. بل قد تحتاج مُعالجة هذه المهام على الأقل إلى 10 أو 20 سنة. لأنه يَصْعُب محو تـقاليد مُجتمعية سلبية، تَعُودُ لِقُرُون، خلال فقط بضعة شهور، أو بضعة سنوات. ولكي يستوعب المُجتمعُ القرارات الثورية الجديدة، ولكي يَتَشَبَّعَ بها، ولكي يُحَوِّلَها إلى واقع مَلْمُوسومُعَاش، يحتاج المُجتمع إلى قُرَابَة15 أو 30 سنة، وليس إلى بضعة شهور، أو بضعة سنوات.

ولَمَّا تـقَلَّد اسْطَالِين (وأنصاره) السلطةَ السياسةَ (في سنة 1922)، سَايَرَ هذا التـقْدِير المُتَسَرِّع الذي يعتبر مرحة “الثورة الديمقراطية البرجوازية” مُنْتَهِيَة. بل زَادَ اسْتَالِينُ في المُبَالَغَة في هذا التَـقْدِير المُتَسَرِّع. وغَدَى الحزب الشيوعي يعمل كأنه بَلَغ وَسَطَ مرحلة “الثورة الاشتراكية البروليتارية”، بينما كانت البلاد تعيش، بعد ثورة 1917، وبَعد الحرب الأهلية، وبَعد الهجمات العسكرية الإمبريالية الخارجية، في تَصَدُّع، وخراب، وتخلّف نسبي.

ومِمَّا زاد المُشكلَ تعقيدًا، أنه بعدما خَلَفَ اسْتَالِينُ لِينِينَ، لم يَكُن اسْطَالِين (وأنصاره) في مستوى الإِدْرَاك الشُمُولِي، والجَدَلِي، الذي كان يُمَيِّزُ لِينِين. ولم يكن اسْطَالِين (وأنصاره) في مُستوى استيعاب عُمْق الخَطِّ السياسي اللِّينِينِي. وقد استـفاد اسْطَالِين فقط من رُكُوب الموجة الثورية الهائلة التي تركها لِينِين. ثم ارتكب اسْطَالِين سلسلة لَا تُصَدَّق من الأخطاء، والحماقات، والجرائم.

ومن بين الفُرُوقَات المُعَبِّرَة الموجودة بين لِينِين واسْطَالِين، أن لِينِين كان يُلِحُّ على أن التَخَلُّف الكبير الحاصل في رُوسْيَا في المجال الاقتصادي(أي في مستوى نمو قِوَى الإِنْـتَاج)، يفرض المُزَاوَجَة بين اقتصاد «مُؤَمَّم» [أو «اشتراكي»] واقتصاد رأسمالي. لأنه كان يَغْلُبُ على رُوسْيَا الطابع الفلاحي، ومُخَلَّفَات شِبْه إِقْطَاعِيَة، وكانت الصناعة فيها ضعيفة. فأطلق لِينِين «السياسة الاقتصادية الجديدة» (NEP) (في مارس 1921). والمقصود بهذه السياسة هو تنشيط قطاع اقتصادي رأسمالي مُوَاز (parallèle). وكان لِينِين يُريد إنعاش نشاط اقتصادي رأسمالي في المُجتمع، يَتَمَيَّزُ بكونه جزئيًا، ومُتَحَكَّم فيه، ويَدُوم خلال فترة زمنية محدودة. وإلى حِين وفاته (في سنة 1924)، لم يُعْلِن لِينِين السَنَةَ التي ستنتهي فيها هذه «السياسة الاقتصادية الجديدة» الرأسمالية. وكان لِينِين يقول أنه ينبغي الاستمرار بجدِّيَة في تنـفيذ هذه «السياسة الاقتصادي الجديدة» خلال فترة لَا تـقِلُّ عن عشرة سنوات، ولَا تتجاوز مدّة25 سنة(8). لكن اسْطَالِين لم يكن يَعِي الأهمية الإستراتيجية لِهذه الإشكالية. ولم يؤطّر اسْطَالِين الحزبَ الشيوعيَ الحاكمَ لكي يُعَمِّقْهَا بما فيه الكفاية. وبعد موت لِينِين، تلاشت مُقَوِّمَات «السياسة الاقتصادية الجديدة» إلى أن زَالَت، دون أن تُحَـقِّقَ كل أهدافها المرجُوّة. وهذا الخطأ السياسي الاستراتيجي، اِنْضَافَ إلى أخطاء أخرى، وساهم في إضعاف الاتحاد السوفياتي، وفي تهيئ شروط انهياره في ظروف لَاحِقَة.

وَأُنَبِّهُ هنا إلى أن الرُّئْيَة التي عَرضتُها سابقًا حول «مَرَاحِل» الثَّوَرَات، والتي دَعَوْتُ فيها إلى عدم التَسَرُّع في “حَرْقِ” مَرَاحِل الثورات، هي رُؤية نِسْبِيَة، وليست مُطلقة. حيث إذا نحن بَالَغْنَا في الفَصْل المُطلق بين «مَرَاحِل» الثورات، فإننا سَنـفْـقِدُ الفهم الجَدَلِي لهذه «المَرَاحِل»، وسَنَسْقُط في تصوّرات مِيكَانِيكِيَة، قد تَكُون مُبَالغ فيها، أو خاطئة. وقد رأينا في مقولة سابقة أن لِينين كتب: «بِوَعي كامل، وبِخُطَى ثابتة، وبدون أيّ انحراف، نَسِيرُ إلى الأمام نحو “الثورة الاشتراكية البْرُولِيتَارِيَة”، مع العِلم أنالثورة الديموقراطية البرجوازيةليست مَفْصُولة عن الثورة الاشتراكيةبحائط الصِّين العظيم»(9). ومعنى هذه المَقُولة أن لِينِين لا يُـقِيمُ فَصْلًا تَامًّا ومُطْلَقًا بين «مرحلة الثورة الديموقراطية البرجوازية»، و«مرحلة الثورة الاشتراكية البروليتارية». بل يعتبر لينين أن بعض مهام «الثورة الاشتراكية البروليتارية» يُمكن أن تُنجز أثناء «الثورة الديموقراطية البرجوازية». كما أن بعض مهام «الثورة الديموقراطية البورجوازية» يُمكن أن تُنجز أثناء «الثورة الاشتراكية البروليتارية». ونجد رُؤْيَة جَدَلِيَة مُشابهة لدى مَاوُو اتْسِي-تُونْغْ. حيث اِنْتـقَد مَاوُو التصوّر المُبَسَّط، أو المُبالغ فيه، الوارد في «كتاب الاقتصاد السياسي للإتّحاد السُّوفْيَاتِي» (المنشور في سنة 1959)(10)، حول تَعَاقُب «مراحل الثورات» في الصِّين. وكتب مَاوُو: «إنه لَمِن الخاطئ إذن أن نـفَكِّر [مثلما جاء في «كتاب الاقتصاد السياسي للإتّحاد السُّوفْيَاتِي»] أنه “بعد التحرير في الصِّين، كانت الثورة الصِّينية، في مرحلتها الأولى، تَنْتَمِي أساسًا إلى الثورة الديموقراطية؛ وأن الثورة لم تتحوّل إِلَّا فيما بعد إلى ثورة اشتراكية”»(11). وأضاف مَاوُو اتْسِي-تُونْغْ: «أثناء مرحلة حرب التحرير في الصِّين، أَطْلَقْنَا نِدَاءَات للكفاح، ليس فقط ضدّ الإمبريالية وضدّ الإقطاعية، ولكن أيضًا ضد الرأسمالية البيروقراطية. ويكتسي الصراع ضدّ الرأسمالية البيروقراطية خاصِّيَتَيْن مُزدوجتين: من جهة أولى النضال ضدّ الرأسمال الكُومْبْرَادُورِي(comprador)، وهو كفاح يدخل في إطار الثورة الديموقراطية، ومن جهة ثانية، النضال ضدّ البورجوازية الكبيرة، وهو كفاح يدخل في إطار الثورة الاشتراكية»(12). [التشديد من عند النوضة]. وتُوَكِّد هذه الرُّؤْيَة الجَدَلِيَة لدى مَاوُو اتْسِي-تُونْغْ أنه كان من الضروري، في بعض الفترات، أن تُخَاض بشكل مُتَزَامِن بعض مهام «الثورة الديموقراطية البورجوازية»، وبعض مهام «الثورة الاشتراكية البروليتارية».

ومن بين القضايا التي لم يكن تِيَار اسْطَالِين يفهمها، أن ميزة كل مرحلة تاريخية انتـقالية هي أنها تَتَضَمَّن عناصر من الماضي، وعناضر من المستـقبل المُرَاد الوصول إليه. ولم يكن أيضًا تِيَار اسْطَالِين يفهم أن وجود اقتصاد رأسمالي، جُزْئِي وَمُتَحَكَّم فيه، خلال الفترة الانتـقالية من «الثورة الديمقراطية البرجوازية»إلى «الثورة البْرُولِيتَارِيَة الاشتراكية»، هو وُجود ضروري. والغَايَة هي أن يتعلّم الاقتصاد الاشتراكي من الاقتصاد الرأسمالي كلّ المَزَايَا الإجابية، أو المُبْدِعَة، أو الفَعَّالة. كما أن المنافسة المُتَهَيِّجَة بين الاقتصادَيْنِ الرأسمالي والاشتراكي تَحُثُّ الدولةَ “الاشتراكية” القائمة على أن تَسْهَرَ على تـقْوِيم الاقتصاد الاشتراكي، وتَحْفِيزِه، وتَغْلِيبِه، وتطويره، لكي يستـفيد هذا الاقتصادُ الاشتراكيُّ من إيجابيات الاقتصاد الرأسمالي، ولكي يتجاوز سلبيَّاته، حتى يصبح أكثر تـقدّمًا من نـقِيضِه الاقتصاد الرأسمالي. ولِتَعْمِيق وعيِهَا الطبقي، ولِصَقْلِ حِسِّها النـقْدِي، تحتاج طبقة الكادحين (أو البْرُولِيتَارِيا) هي نـفسها إلى التَعَلُّم مِن خلال الصِّدَام المُباشر، ومن خلال المُنافسة المَلموسة، بين علاقات الإنتاج الرأسمالية وعلاقات الإنتاج الاشتراكية. فمن الممكن أن يوجد اقتصاد اشتراكي جزئي داخل الاقتصاد الرأسمالي، كما يمكن أن يُوجد اقتصاد رأسمالي جُزئي داخل الاقتصاد الاشتراكي. وَبَدَلًا من التسرّع في إلغاء التناقض بين الاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي، عبر إلغاء وجود أحد طَرَفَيْه (أي عبر إلغاء الاقتصاد الرأسمالي)، مثلما فعل اسْطَالِين، كان ينبغي إيجاد هذا التناقض (بين الاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي)، والتحكُّم فيه، والاستـفادة منه، خلال المرحلة الانتـقالية، بهدف تَغْلِيب الاقتصاد الاشتراكي، وتـقوية علاقات الإنتاج الاشتراكية. وهو المَزْجُ الانتـقالي الذي اِنْتَبَهَت الصِّين إلى ضرورته، ونجحت في تنظيمه. [وبهذه المناسبة، أُنَبِّه إلى أن أحد أخطاء الحُكم القائم حاليا في الصِّين (في 2019)، هو أنه يَستعمل الاقتصاد الرأسمالي المُوَازِي فقط لتَضْخِيم حجم التنمية الاقتصادية، لكنه لَا يستغل هذا الاقتصاد الرأسمالي لِتحفيز الاقتصاد الاشتراكي، ولِتـقْوِيَتِه، ولِتَغْلِيبِه. وإذا اِسْتَمَرَّ هذا الخطأ طَوِيلًا، يُِمكن أن يَنْتُجُ عنه، على المدى المتوسّط أو البعيد، اضْمِحْلَال، ثم زوال، الاقتصاد الاشتراكي من الصِّين]. وبعد انتهاء مرحلة المُوَازَاة بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي، وبعد اكتمال استـفادة الاقتصاد الاشتراكي من الاقتصاد الرأسمالي، آنذاك يمكن اللجوء إلى التدمير النهائي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية في المُجتمع.

وَطَرح سَمِير أَمِين أن السلطة السياسية في الاتحاد السوفياتي كانت مجبرة على اختيار أحد الخيارين التاليَّين المتناقضين: «إمّا التركيز على التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين، أي إشراك المجتمع القروي في المشروع الاشتراكي من جانب»، و«إمَّا مُواجهة عداء وهجومات الغرب الامبريالي من الجانب الآخر». وكل خيّار كانت له نتائج ثقيلة، ومُكلّفة، وطويلة الأمد. وصعوبة حسم هذا الاختيار تَسَبَّب في «تَرَدُّدَات لدى لينين، وبوخارين، ثم ستالين». واتخذوا مواقف تميل أحياناً الى إعطاء الأولوية إلى “المشكلة القروية”، وتميل تارة أخرى الى التركيز على معالجة “عداء الغرب الامبريالي”.

و«يقتضي خيار التركيز على التحالف العمالي الفلاحي السير بِبُطء نحو الاشتراكية؛ بينما يقتضي خيار التركيز على مواجهة الإمبريالية استعجال التصنيع، والتسليح». وقد انتقل أحيانًا الموقف بشكل مُفاجئ ومتطرّف مِن خيّار إلى نقيضه. وتجلت فُجائية الانقلاب بين هذه الخيارات في «لجوء القيادات تارةً إلى نظرية خَطِّيَة حَتْمِيَة تدعو الى احترام التتابع التاريخي الذي لا مفر منه (وبالتالي ضرورة إتمام أهداف الثورة البرجوازية، قبل الدخول في مرحلة الثورة الاشتراكية)، وتارة أخرى تَلْجَأ القيادات الى نظرية إرادوية عكسية، تقول: إن القفز فوق مرحلة الثورة البورجوازية أصبح ممكناً بفضل حكم “ديكتاتورية البرولتياريا”». و«استمر هذا التردد خلال عقد العشرينات إلى أن فرض ستالين خيار استعجال التصنيع والتسليح في الثلاثينيات». وأدّى هذا الخيار إلى «تصفية المجتمع القروي لصالح إقامة نظام الكُولْخُوز». وأدى «قرار تصفية المجتمع القروي الى تحطيم تحالف العمال والفلاحين، وشجّع بالتالى على الانحراف إلى ممارسة الأتوقراطية في إدارة السياسة»(13).

وفي مقال آخر لِسَمِير أَمِين، نُشِرَ تحت عُنوان : «التحدّي الذي واجهته قيادات الدول الاشتراكية»(14)، حَاوَل سمير أمين أن يشرح أن التحدِّي الذي تَصَدَّت له الثورة في كُلّ مِن رُوسيا والصِّين، هو «إشراك المجتمع القروي في المشروع الاشتراكي من جانب، ومواجهة عجرفة وعداء الغرب الإمبريالي من الجانب الآخر». وأضاف سمير أمين أن هذا التحدّي هو الذي يُفسّر أسباب تَرَدُّدَات لِينِين، وبُوخَارِين، ثمّ اسْطَالِين، بين إعطاء الأولوية إلى الجانب الأوّل (المشكلة القَرَوِيَة) تارةً، وتارةً أخرى إلى الجانب الثاني مِن هذا التحدّي (مُواجهة الغَرب الإمبريالي). وقال سمير أمين «يقتضي الخيار الأول السَّيْر ببطء نحو الاشتراكية، بينما يقتضي الخيار الثاني استعجال التصنيع والتسليح». وكانت القِيَادات السياسية تنتـقل بشكل مُفاجئ من روية مُتطرّفة لهذا التناقض، إلى رؤية مُضادّة لَمْ تَـقل تَطرّفًا. وأضاف سمير أمين: «لجأت القيادات تارة إلى نظرية خطّية حتمية، تَدعو الى احترام التتابع التاريخي [لِمَرَاحِل الثورة] الذي لَا مَفَرَّ منه – وبالتالي ضرورة إتمام أهداف الثورة البرجوازية قبل الدخول في مرحلة الثورة الاشتراكية – وتارة أخرى لجأت إلى نظرية إِرَادَوِيَة عَـكْسِيَة تَـقول إن القَـفْزَ فوق مرحلة الثورة البورجوازية أصبح ممكناً بفضل حُـكم “ديكتاتورية البرولتياريا”». واستمرَّ هذا التَذَبْـذُب خلال سنوات 1920 إلى أن فرض سطالين خيار استعجال التصنيع والتسليح في سنوات 1930. وتَمَّت تَصْفِيَة المجتمع القروي لِصالح إقامة نظام الكُولْخُوز. وهكذا تَمَّ تحطيم التحالف الطبقي بين العُمّال والفلاحين. وتَرافَـقَ ذلك مع انتشار الأساليب الاستبدادية.

وقد أوضح شَارْل بِيطَلْهَايْم رأيًا مُشابهًا لِرَأْي سمير أمين المذكور أعلاه، وَبِتَـفَاصيل دقيقة، في كتابه الصخم “تاريخ الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي” (في ثلاثة أجزاء). لكن شارل بيطلهايم هو الذي سَبَـقَ (من الناحية الزمانية) إلى نشر هذه الأطروحة. وجزء هام من الجزء الثاني (من كتاب بيطلهايم) يحلّل تفاصيل هذه القضية.

ومُشكلنا ليس هو الخوف من التناقض. وهدفنا ليس هو نكران وجود التناقض، أو إخفاءه. وإنما غايتنا هي الاستـفادة من التناقض الموجود، والعمل على تغيير الواقع المُتَنَاقِض، وخلق صيرورة تـقَدُّمية، أو ثورية، بهدف مُعالجة ذلك التناقض، ثم تجاوزه، للانتـقال نحو واقع مُجتمعي آخر، يكون من مستوى أعلى. والصراع (المُتَحَكَّم فيه) بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي، تحت حكم سلطة سياسية اشتراكية أو شيوعية، هو الذي سَيُسَاعد على بناء وتعميق وتـقوية اشتراكية تتميّز بتـفوُّقِهَا على الرأسمالية.

(1) Henri Guitton, Économie Politique, Édition Dalloz, 1971, p. 64.

(2) افْلَادِيمِير لِينِين، في مقاله “من أجل الذكري الرابعة لثورة أكتوبر”، نُشِرَ في جريدة “البرافدا” في 18 أكتوبر 1921، وَوَرَدَ ضمن كتاب (يحتوي على مقتطفات من أعمال لِينِين) تحت عنوان: “الثـقافة والثورة الثـقافية”، منشورات التـقدم مسكو، الاتحاد السوفياتي، السنة 1977، من الصفحة 177 إلى الصفحة 192، (باللغة الفرنسية).

(3) أُتَرْجِمُ مقتطفات (بِتَصَرُّف شخصي)، من الفرنسية إلى العربية، مأخوذة من المرجع المذكور في الحاشية السابقة، الصفحات 177، 179.

(4) نـفس المرجع السَّابِق، الصفحات 178، 179.

(5) نـفس المرجع السابق، الصفحة 178.

(6) نـفس المرجع السّابق، الصفحة 179.

(7) نـفس المرجع السابق، الصفحة 179.

(8) Martin Edward Malia, “La Tragédie soviétique”, p. 218. https://fr.wikipedia.org/wiki/Nouvelle_politique_%C3%A9conomique.

(9) نـفس المرجع السابق، الصفحة 178.

(10) Manuel d’économie politique de l’Union Soviétique, Éditions du Progrès, Troisième édition.

(11) Mao Tsé-toung et la construction du socialisme, Édition Seuil, Paris, 1975, p.68.

(12) Mao Tsé-toung et la construction du socialisme, Édition Seuil, Paris, 1975, p.68,

(13) سمير أمين، “قراءات نقدية في إخفاق الاشتراكية الفعلية”. أنظر أيضا كتاب سمير أمين تحت عنوان “ثورة مصر بعد 30 يونيو”، الصادر عام 2014، وخاصة منه الفصل الثاني بعنوان “الصعود الناجح للصين”.

(14) مقال سمير أمين، تحت عنوان “التحدّي الذي واجهته قيادات الدول الاشتراكية” مأخوذ من كتابه : Samir Amine, Only People make their own history, november 2018, New York, environ 240 p., extrait publiés dan Monthly Review.

3) هــل الــنُّــمُــو الاقــتــصــادي شَــرط لِـنَـجَـاح الــثــورة الاشــتــراكــيــةَ ؟

الماركسية هي اجتهاد نظري عِلْمِي، ونِسْبِيّ، وغير مُكْتَمِل، وغير مُطلق. وتَبْـقَى الماركسية (مثل كلّ عِلم) قابلة للمُراجعة، ولِلْإْغْنَاء. وتُوجد قضايا لم يتوقّعها كارل ماركس، أو لم يدرسها بقدر كَافٍ.

وفي مَجال العلاقة بين مستوى النُّمُو الاقتصادي وحُدوث الثورة الاشتراكية، ذَكَّرَ سمير الخطيب بالمثال الذي طَوَّر فيه افْلَادِيمِير لِينِين فكر كَارْل مَارْكِس. حيث كان كارل ماركس قد طرح أن الاحتمال الأكبر هو أن الثورة الاشتراكية ستحدث في البلدان الرأسمالية الأكثر تـقَدُّمًا. بينما «لَدَى لِينِين، كانت الفكرة الرئيسية أن الثورة يمكن أن تنجح في أضعف الدول الرأسمالية، وليس في أكثرها تَطَوُّرًا»(1) ! وكان لينين قد اكتشف قانون التطور الاقتصادي والسياسي غير المتساوي للبلدان الرأسمالية خلال فترة الإمبريالية. وانطلاقا من هذا القانون، حـقّـق لينين اكتشافًا علميًا إضافيا، هو : إمكانية كسر سلسلة الإمبريالية العالمية في أضعف حلقاتها ؛ واستنتج لينين إمكانية انتصار الاشتراكية، أولاً في عدد قليل من البلدان، أو حتى في بلد واحد، واستحالة الانتصار المُتَزَامِن للاشتراكية في جميع البلدان(2). وأكّد لِينين أن «الثورة تنـفجر أوّلًا في الحلقة الأضعف من العالم الإمبريالي». وكانت روسيا إبّان ثورة أكتوبر 1917 هي الحلقة الأضعف. ثم تلتها الصِّين. وقد أثبت نجاح ثورة أكتوبر 1917 في رُوسْيَا أن لِينِين كان على حقّ.

وفي مجال إسقاط سلطة البرجوازية، تَجَرَّأَ لِينِين على تـقديم تحليل جديد ومخالف لِتحليل ماركس. و«طرح لِينين أن الدولة الرأسمالية لَا تُصَدِّر البضائع فقط [مثلما طرح ماركس]، وإنما تُصدِّر أيضًا أزماتها. ومن هنا جاء تحليل لِينِين بأن الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، وبأن الرأسمالية لن تسقط في أقوى الحلقات حسب تَوَقُّعات ماركس، ولكنها ستسقط في أضعف حلقاتها»(3).

ويُطرح التساؤل التالي: في تلك الفترة التاريخية، لم تكن روسيا والصّين هما وحدهما الحلقتان الأضعف، بل كانت أيضا الهند. فلماذا لم تنجح الثورة الاشتراكية كذلك في الهند؟ أجاب ماوُو تْسِي تُونْغْ: لأن الهند كانت خاضعة للإمبريالية البريطانية، بينما كانت الصّين خاضعة لعدّة إمبرياليات. ولأن الحزب الشيوعي في الهند لم يُشارك بِفَعَالِيَة في الثورة الديموقراطية البرجوازية في بلاده، ولأنه لم يَفْلَح في تَبَوُّءِ الدور القيادي أثناء هذه الثورة الديموقراطية البرجوازية، ولأنه لم ينجح في صِيَّانَة استـقلال طبقة البروليتاريا، ولأن هذا الحزب الشيوعي في الهند لم يكن قد بلغ المستوى الضروري من النُّضْج السياسي، بينما التجارب التاريخية في روسيا والصّين أكّدت أن وجود حزب شيوعي ذي مستوى عال من النّضج السياسي هو شرط ضروري لنجاح الثورة(4).

ويمكن قراءة إِشْكَالية إِقْلَاع التنمية الاقتصادية في الصِّين من زاوية مسألة العلاقة بين مستوى النُّمُو الاقتصادي، واحتمال نجاح الثورة الاشتراكية. سَأُوَضِّح. بين الثورة البورجوازية في سنة 1911 وسنة 1926، عاشت الصِّين 15 سنة من الحروب الثورية، وحروب «أُمَرَاء الحَرب» المُدَعَّمِين من طرف الإمبريالية. وبين سنتي 1927 و 1949، عاشت الصين حربا ثورية مُتواصلة، قادها الحزب الشيوعي الصِّيني(5). وقبل انتهاء تحرير الصِّين في سنة 1949، كان يُوجد في الصِّين نظامٌ سياسي تَبَعِي للاِمْبِرْيَالِيَة، وكانت تُوجد فيه رأسمالية، وكذلك بقايا إقطاعية، وكان النظام السياسي في الصّين يعجز على تحقيق التنمية الاقتصادية. فبقيت الصّين بلدًا متخلّفًا. وهكذا حدثت في الصين حرب أهلية، وحرب تحرير وطنية، وَتُوِّجَت بِـ «ثورة اشتراكية». وقد اِتَّبَع الحزب الشيوعي الصيني عُمُومًا خطًّا سياسيا «شِيُّوعِيًّا» ثوريًّا بين سنتي 1949 و 1976. ورغم تَثْبِيت واسْتِمْرَارية «الثورة الاشتراكية» في الصّين، فإن هذا البلد بقي على العُموم بلدا فِلَاحِيًّا، ومُتَخَلِّفًا نِسْبِيًّا في مجال الاقتصاد. ولم تستطع الصين أن تتحوّل بسرعة مُرضية إلى بلد صناعي. لأن التصنيع يحتاج إلى استثمارات ضخمة، ومتواصلة، وتتجاوز هذه الحاجيّات قُدُرَات الدولة الصينية النَاشِئَة. وأدرك بعض أطر الحزب الشيوعي الصّيني أن هذا التخلّف النسبي في المجال الاقتصادي يُبْقِي الصّين في حلقة مُفْرَغَة (cercle vicieux) من التخلّف. بل يُهدّد أمن الصين، ويُهدِّد حتى استمرارية «الثورة الاشتراكية» فيها. وكان الحلّ الذي اِتَّجَهَ نَحْوَه الحزب الشيوعي الصيني، على الخُصُوص منذ قرابة سنة 1976، هو المُزَاوَجَة بين اقتصادين اشتراكي ورأسمالي. فشجّعت السلطة الصينية المبادرات الاقتصادية الخُصوصية، ودخلت الصين في انـفتاح تدريجي ومُتصاعد على السوق العالمية الرأسمالية، تحت قيّادة الحزب الشيوعي الصيني. وبعد مرور قرابة 40 سنة على دخول الصين في سياسة «بلد واحد بنظامين اقتصاديَّين» (واحد اشتراكي، والثاني رأسمالي)، أصبحت اليوم جَلِيَّةً مظاهرُ تنميةٍ اقتصاديةٍ هائلة في الصين. وغدت الصين من بين دولة العالم الصناعية المتـقدمة في مُجمل الميادين التكنولوجية. ولو أن الصّين، وإلى حدود سنة 1995، ظلّت تعتبر نـفسها رَسْمِيًّا «من ضِمن البلدان السَّائرة في طريق النموّ».

لِنُلَخِّص الآن المَشْهَد: كارل ماركس توقّع حُدوث الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الأكثر تـقدّمًا (مثل إنجلترا، وألمانيا، الخ). لكن الثورة الاشتراكية لم تحدث في هذه البلدان الرأسمالية الأكثر تـقدما. وإنما حدثت الثورة الاشتراكية [كما اِسْتَشْرَفَ ذلك لِينِين] في البلدان التي كانت تُجَسِّد، خلال المرحلة التاريخية المعنية، الحَلَقَات أَلْأَضْعَف(في المنظومة الرأسمالية العالمية)، مثل روسيا، والصين، وفِيتْنَام، وكوريا الشمالية، وكوبا، إلى آخره. لكن البلدان «الاشتراكية»، التي لم تـفْلَحْ (بعد مُرور قرابة 50 سنة) في تحقيق مُستوى مُتـقدِّم نِسبيًّا من النمو الاقتصادي الشَّامل، مثل روسيا، كان مصيرها هو الانهيار (لأسباب مُرَكَّبَة). وإذا لم تنجح البلدان«الاشتراكية» الأخرى، مثل كُوبَا وكُورْيَا الشمالية وفِتْنَام، في إنجاز قَدْرٍ مُرْضٍ مِنَ التنمية الاقتصادية، في أجل لا يتجاوز كثيرًا قرابة 50 سنة، فإن مصيرها سيكون هو الإفلاس (مثلما حدث في الاتحاد السّوفياتي). أمَّا البلدان «الاشتراكية» التي وَجدت سَبِيلًا لتحقيق مستوًى مُتـقدِّما نِسبيًّا من النمو الاقتصادي، مثلما حدث في الصين)، أصبحت أقوى بكثير مِمَّا كانت عليه قبل الثورة. وقد يكون لِعَوَامِل مُجتمعية أخرى (مثل الحَجْم السُكَّانِي، أو التـقاليد الثـقافية، الخ) دور فَعَّال أو كبير. فمثلًا فِتْنَام، إِتَّبَعَت سياسة اقتصادية قريبة نِسبيًّا مِن سياسة الصين (أي سياسة بلد واحد بنظامين اقتصاديّين)، لكنها لم تحصل، مثل الصِّين، على دِينَامِيَّة قوية في مجال التنمية الاقتصادية. رُبَّمَا لأن العَامل الدِّيمُوغْرَافِي الموجود في فِتْنَام (92 مليون نَسَمَة في سنة 2016) لم يَبْلُغ “الحَجْم الحَاسِم” (taille critique) الذي كان موجودًا في الصِّين (قرابة 1 مليار نسمة).

وفي حالة كُوبَا الاشتراكيةَ، ذات الحجم الصّغير (على مُجمل مستويات الجغرافية، والسُكَّان، والاقتصاد)، والتي عَانَت خلال أكثر من 50 سنة من أضرار حِصَار اقتصادي قَاتِل، مَفْرُوض عليها من طرف الإمبريالية الأمريكية، ظَهَرَ كأن الحزب الشيوعي الكُوبِي الحاكم اِسْتَوْعَبَ المُقَارَنَة بين تجربتي الصِّين والاتحاد السوفياتي. فَدَعَا الحزب الشيوعي الكُوبي المواطنين، في 24 فبراير 2019، إلى نـقاش، ثم إلى التصويت على تَعْدِيل جديد للدستور، يُبِيحُ اقتصاد السُّوق، والملكية الخاصة، والمبادرة الاقتصادية، ويُحَافِظ في نـفس الوقت على أهمّ عناصر النظام الاشتراكي (مثل صيانة الطابع الاشتراكي للدولة، والدور القيادي للحزب الشيوعي، والتخطيط الاقتصادي، والمقاولات العُمُومية، إلى آخره). وظهر كأن هَمَّ الحزب الشيوعي الكوبي هو الخروج من الحلقة المُفْرَغَة للفـقر، مع صيّانة استمرارية الاشتراكية، في انتظار ظروف أحسن. وأصبح التحدّي هو التالي: إمَّا أن يُنْجِزَ النظام الاشتراكي في كوبا قدرًا مُرضيا من التنمية الاقتصادية، وإمَّا أن يزول.

لِنُعِدْ تَصْوِير المَشْهَد السياسي السّابق: كارل ماركس توقّع حدوث الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الأكثر تـقدّمًا (أي أن ماركس يشترط وجود حَدٍّ أدنى في مستوى النمو الاقتصادي). لكن لِينِين أثبت في المُمَارَسَة إمكانية حدوث الثورة الاشتراكية في البلدان التي هي الحلقات أَلْأَضْعَف (مثل روسيا، ثم الصين، إلى آخره)، ولو لم يكن فيها مستوى النمو الاقتصادي كافيا. ثم حدثت تطورات كثيرة في الاتحاد السوفياتي، من بينها أنه، ولَوْ بَعد مُرور أكثر من 70 سنة على بداية «الثورة الاشتراكية»، تَأَخَّرَ، أو غَابَ، إِحْدَاثُ قَدر كَاف من النُمُوِّ الاقتصادي، فانهار الاتحاد السوفياتي، ورجعت إليه الرأسمالية.

ولماذا لم يَنجح الاتحاد السّوفياتي في تحقيق نُمُوّ اقتصادي مُرض، ولو بعد مرور أكثر من 70 سنة على بداية الثورة الاشتراكية؟ المسألة مُعـقّدة، وتحتاج إلى دراسة دَقِيقة، وضخمة، على شكل كتاب أو عِدّة كتب إضافية. (وفي هذا الموضوع، ساهم شارل بيطلهايم في جَمع وتحليل كَمّ هائل من المعطيات في كتابه الضّخم “تاريخ الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي”، في ثلاثة أجزاء). وقد لَخَّصَ مُنِير شَفِيق جزءًا من العوائق التي منعت الاتحاد السوفياتي مِن تحقيق تنمية اقتصادية كافية، حيث كتب شفيق: «لَقَد عانَى الاتحاد السوفياتي مرحلة الحرب الأهلية المُدَمِّرَة ما بين سنتي 1917 و 1924، ثم حرباً عالمية ثانية دَمَّرَتْه تدميراً. وقد سبقها حِصَار خانق بين سنتي 1924 و 1941. فالهوّة بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي كانت هائلةً جداً مِن الناحية الاقتصادية والمالية والانتاجية والعلمية والتقنية. ولم يكن الاتحاد السوفياتي نَدًّا إلاّ بالقُدرات العسكرية التي حالت دون حسم الصراع معه من خلال الحرب»(6). وأضاف شفيق أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تستفيد مِن مُوَازَنَة مَالية مُرِيحَة، بسبب الفارق الكبير من حيث الإمكانات المالية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها طِوَال الوقت. ويعود عُمُومًا تَـفَوُّق أمريكا، تاريخياً وحاضراً، لنهبها العالم، وكذلك لِقُدراتها التقنية والإنتاجية والتجارية والاقتصادية. وأشار مُنير شفيق إلى أنه يُدرك أن انهيار الاتحاد السوفياتي لَا يُـفَسَّرُ فقط بالعامل الاقتصادي، حيث كتب: «لَا يصح أن يُعزى اِنْهِيَّار الاتحاد السوفياتي إلى السبب الاقتصادي كتـفسيرٍ تبسيطي، إذ يجب أن يُقرأ بعمق. فعلى سبيل المثال مرّ (الاتحاد السوفياتي) في سنوات 1920 و 1930 ، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، بظروف اقتصادية أصعب بكثير، وبما لا يقاس، بصعوباتها الاقتصادية في أواخر سنوات 1980. لذلك، فإنّ ما كان وراء الانهيار أسباب أخرى بالتأكيد»(7).

وإن لَم يَنجح الاتحاد السوفياتي في تحقيق قَدْر مُرض مِن التنمية الاقتصادية، وَلَوْ بَعد مُرور أكثر من 70 سنة على بداية «الثورة الاشتراكية»، (حيث سَاهَمَ هذا الضُّعف في تَسْهِيل اِنْهِيَّار الاتحاد السوفياتي، وَقَادَه إلى الرُّجُوع إلى الرأسمالية)، فَمَاذا أنجزت الصِّين في هذا المجال؟ اِسْتَـفَاد الحزب الشيوعي الصّيني مِن أخطاء الاتحاد السّوفياتي. وعرفت قيّادة الحزب الشيوعي الصيني كيف تُحدث مُسْتَوًى مُهِمًّا من النمو الاقتصادي. وهكذا بَـقِيَقَائِمًا في الصِّين نظام سياسي«اِشتراكي». وبقيَ فيها نـفس الحزب «الشيوعي» حاكمًا. وبعد تحقيق النمو الاقتصادي في الصّين، أصبح بِإِمْـكَان الحزب الشيوعي الحاكم، إن أراد، أن يرجع إلى الاشتراكية، وأن يُعمِّقَها أكثر مِمَّا كانت من قبل. كما أصبح بِإمكان هذا الحزب الحاكم، أن يَـفْـقِدَ الثِـقَة في الاشتراكية، أو أن يَـفْـقِد التَحَكُّم في الاقتصاد الرأسمالي المُوَازِي، وأن يُـقرّر البقاء في الرأسمالية، وإلغاء الطموح إلى الاشتراكية. بمعنى أن كل التطوّرات تبقى مُمكنة في الصّين.

وفي ظاهر الأمور، يمكن القول أن لِينِينُ غَلَبَ ماركسَ. لأن لِينِين أثبت في الواقع الملموس إمكانية نجاح الثورة الاشتراكية في بلد هو «حَلَقَة ضَعِيفة»، ولو لم يَكن مستوى النموّ الاقتصادي متـقدِّمًا في هذا البلد المعني. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار استمرارية “الثورة الاشتراكية” على مدى الزمان التاريخي المتوسِّط أو الطويل، نجد أن ماركس هو الذي مَعَه الحَق. لأنه إذا لم تستدرك “الثورة الاشتراكية” النَـقْص الحاصل في مجال النمو الاقتصادي، يكون مصيرها هو الانهيّار، أو الإفلاس، ثمّ الزوال (مثلما حدث للاتحاد السوفياتي).

ونستخرج من المشهد السّابق الخلاصةالجزئية التالية: أن وُجود مستوى حَدٍّ أَدْنَى من النمو الاقتصادي هو شرط من بين الشروط المُحَبَّذَة لِقيام، أو لِنَجَاح «الثورة الاشتراكية» في بلد مُحدّد. لكن من الممكن أن تحدث «الثورة الاشتراكية» في بلد مُعَيَّن (إذا كان هو الحَلْقَة الأضْعَف)، ولو أن شرط الحد الأدنى من النمو الاقتصادي لا يتوفّر بالقدر الكافي في هذا البلد. وحتى إذا نجحت «الثورة الاشتراكية» في هذا البلد المعني (الذي هو الحلقة الأضعف)، فإن استمرارية «الثورة الاشتراكية» في هذا البلد تبقى مشروطة بِنَجَاح النظام السياسي «الاشتراكي» القائم فيه بِِاسْتِدْرَاكِ النـقْص الحاصل، وتحقيق مُستوى مُتـقدّم من النمو الاقتصادي، خلال ظرف زماني لَا يتجاوز، على أكبر تـقدير، قرابة 50 سنة. بمعنى أن حدوث مستوى مُتـقَدِّم من النمو الاقتصادي، هو إمَّا شرط فَبْلِيٌّلحدوث الثورة الاشتراكية، وإمَّا شرط بَعْدِيٌّ لِاسْتِمْرَارِيَة هذه الثورة الاشتراكية. ومن بين أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، أنه لم يُنجز النُمُوَّ الاقتصادي بقدر كاف حتى بعد مرور قرابة 70 سنة على انطلاق الثورة.

(1) سمير الخطيب، في مقاله «جدلية الثورة، والديمقراطية، والاشتراكية»، على موقع “الحوار المُتمدِّن”، العددين 5588، و 5598.

(2) https://d-meeus.be/marxisme/manuel/part2resect10.html

(3) سمير الخطيب، نـفس المصدر السابق.

(4) Mao Tsé-toung et la construction du socialisme, présentation de Hu Chi-hsi, Éditions Seuil, Paris, 1975, p.64.

(5) Mao Tsé-toung et la construction du Socialisme, (Textes présenté par Hu Chi-hsi), Édition du Seuil, Paris, 1975, p.80.

(6) مُنِير شَفِيق: https://www.trtarabi.com/opinion/حول-الحرب-الباردة-للصين-على-الولايات-المتحدة-الأمريكية-5088583

(7) نفس المصدر السابق.

4) لِــمَــاذا تَــحَــوَّلــت دِيــكْــتََــاتُــورِيَــة الــبْــرُولِــيــتَــارْيَــا إلى نَـــقِــيــضِــهَــا ؟

بَعْد انهيّار الاتحاد السُّوفْيَاتِي، قَام الكثير مِن السياسيّين الرَأْسَمَالِيِّين، والمُفَكِّرِين البُورْجوازِيّين، بِاستِغْلَال هذا الانهيّار لِلهُجُوم على الماركسية. وَزَعَمُوا أنها مُجرّد يُطُوبْيَا مُسْتَحِيلَة التَحْقِيق. وَوَصَفُوا الاشتراكية بِأَنّها مُجرد وَهْم. والأطروحة الماركسية التي حَظِيَت بِأَكْبَر قَدْر مِن هُجوم المُفَكِّرِين البُورْجْوَازِيِّين، هي أطروحة «دِكْتَاتُورِيَةالبْرُولِيتَارْيَا» (dictature du prolétariat)(1). وَهُم في نـفس الوقت، يَتَجَاهَلُون وُجُود دِيكْتَاتُورِيَّة الطبقة البُورْجْوَازِيَة، الـقَائِمَة في مُجتمعاتهم. وَيَعتبر أعداء الماركسية أن دِيكْتَاتُورِيَة البُورْجْوَازِيَة هي شيئ عَادِيّ، وَمَشْرُوع، وَقَانُونِيّ. وَمَارَسَ المُفَكِّرُون البُورْجْوَازِيُّون ضغطًا هَائِلًا على كُلِّ فَاعِل سيّاسي تَـقَدُّمِي، أو دِيمُوقْرَاطي، لِكَيْ يَشْهَد بِأنه يَرْفُضُ «دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا»، أو يَنْبُذُهَا. وَهَكَذَا أصبح مُعظم الأشخاص «الاشتـراكيّين الدِّيمُوقْرَاطِيِّين»، المُلْتَـزِمِين بالعمل في إطار النظام الرأسمالي، مُجْبَرِين في كلّ مُنَاسَبَة على إِشْهَار نَوَايَاهُم المُحَافِظَة، أو الإِصْلَاحِيَّة، عبر التَعْبِير عن رَفْضِهِم لِـ «دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا». وَغَدَى رَفْض «دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا» شَرْطًا مَـفْـرُوضًا على كلّ شَخْص «اِشْتِرَاكِـي» يُرِيد أن يَـكُون مَـقْبُولًِا مِن طَرَف الطبقة البورجوازية السَّائِدَة، سَوَاءً في مَجالات الانـتخابات، أم في مَيْدَان الإعلام الرَّسْمِي. بَيْنَمَا كان لِينِين يُعرِّفُ الشخص الماركسي بِكَوْنِه «يُمَدِّدُ إعترافه بِوُجود الطبقات المُجتمعية، أو بالتـناقضات الطبقية، أو بالنضال الطبقي، إلى الإعتـراف أيضًا بِضَرُورة دِيكْتَاتُورية البروليتاريا»(2).

وقد سبق لِـ كارل ماركس أن كَتَبَ عن جوهر مذهبه: «الجديد الذي أَتَـيْتُ به هو : 1) إثبات أن وُجود الطبقات مُرتبط فقط بِمَراحل تاريخية مُحدّدة مِن تَطَوُّر الإنتاج ؛ 2) أن الصراع الطبقي يؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا ؛ 3) أن ديكتاتورية البروليتارية، بحد ذاتها، لا تُمَثِّلُ سوى انتـقالًا مَرْحَلِيًّا نَحْوَ إلغاء جميع الطبقات، نَحْو مجتمع لَا طَبقي»(3).

وَتُعِيبُ النُخَبُ اللّيبيرالية (أو الرأسمالية) على الشيوعية، وعلى الاشتراكية، أنها تريد إقامة نظام سياسي مبني على أساس «دِكْتَاتُورِيَةالبْرُولِيتَارْيَا» (dictature du prolétariat). ويُوهِمُون الشعب بأن «الديمقراطية» تُوجد فقط في «الرأسمالية»، وتتطابق معها. ويتناسون، بشكل مُتَعَمَّد، أن اللّيبيرالية، أو الرأسمالية، تـقُومَان، على أساس دِيكْتَاتُورِية الطَبَقَة البُرجوازية(4)، ولو أن دِيكتاتُورية البرجوازية تَبْـقَى مُمَوَّهَة (camouflée). ويتكلّم الرأسماليون، كأن المُجتمع الرأسمالي لَا تُهَيْمِن فيه أيّة طبقة. أو كأن «الطبقات» لَا توجد في المُجتمع الرأسمالي، ولَا تتصارع فيه. وَيَتَلَافَوْن الاعتراف بوُجود طبقات سَائِدَة، وطبقات مَسُودَة، في المُجتمع. وحتّى إذا اعترفوا بوجود «طبقات» مُتَمَيِّزَة في المُجتمع، فإن خِطَابَاتِهم تُوحِي أن هذه الطبقات تَـبْـقَـى «مُتَسَاوِيَة تمامًا». بِمَعْنَى أنها لَا تختلف في أيّ شيء. بينما الرأسمالية هي الديكتاتورية المُسْتَـتِـرَة، أو المُمَوَّهَة، للطبقة البرجوازية. وهذه الطبقة البُورْجْوَازِيَة السَّائِدَة هي طبقة المُسْتَغِلِّين الكِبار(5). وتَـتَكَلَّفُ الدِعَايَة الرأسمالية بِمُغَالَطَة المواطنين، وتَدْوِيخِهِم، وإِغْرَاقِهِم في الاسْتِلَاب (aliénation). وَتَتَلَاعَب طبقةُ المُسْتَـغِلِّين الكبار بمؤسّـسات الدولة، وبِِإنْتَاج القوانين، وتَكْيِيفِهَا، وتَصْرِيفِها، بهدف تَمْوِيه (camoufler) الاِسْتِغْلَال الرأسمالي. وَتُـمَارِس طبـقة المُسْتَـغِـلِّين الكِبَار السَّطْو، والاضطهاد، والفَسَاد، والاستبداد، دون أَيِّ اكْتِرَاث، لَا بالقَوانين، ولَا بالعَدل، ولَا بالأخلاق.

وبالرجوع إلى الأصل النظري، نجد أن كارل ماركس (K. Marx) وافريدريش إنجلس (F. Engels) كانا سَبَّاقَيْن إلى القيّام بِنَـقْد مُعَمَّـق لِنَمَط الانتاج الرأسمالي. ووَضَعَا الأسـس العامّة لاستراتيجية وَلِتَـكْتِيك كِـفَاح طبقة المُسْتَـغَلِّين، وللثورة الاشتراكية العالمية. [وفي لغة الاشتراكيين الأوروبيّين، يَستـعملون عادةً مَـفْهُوم طبقة “البْرُولِيتَارْيَا” للكلام عن طبقة المُسْتَـغَـلِّـين]. واعتبر ماركس وإنجلس «دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا» كَـمَرْحَلَة اِنْتِـقَالِيَة ضَرورية في التَطَوُّر التاريخي، على طريق الكفاح نحو المجتمع الشيوعي، الخَالِـي من الطبقات.

وَكَارْل مَارْكَس وافْرِيدْرِيش إِنْجَلْس، هما مِن بين المُفكِّرين الأُوَّلِين الذين نَادَوا بِتَطبيق «دكتاتورية البروليتاريا» خلال الثورة الاشتراكية الاِنْتـقَالِيَة (وذلك اسْتِرْشَادًا بِدروس اِسْتَخْلَصَاهَا مِن عِدّة ثورات، مثل ثورات سنوات 1789، و 1830، و 1848، وكُمُونَة بَاريس في سنة 1871، في فرنسا).

ومَا هي «دِيكْتَاتُورِيَة البروليتاريا»؟ كان ماركس يقصد بِِـعِبَارة «دِيكْتَاتُورِيَة البروليتاريا» أن تُطِيح طبقة البروليتاريا بِسُلطة الطبقة البورجوازية الكبيرة، وأن تُمَارس البروليتاريا سيطرةً طبقيةً فعَّالة على الطبقة البورجوازية. والهدف مِن سَيْطَرَة البْرُولِيتَارْيَا على البُورْجْوَازِيَة هو مَـنْـع هذه البورجوازية مِن أن تَـقُـوم بِثورة مُضادَّة. والغَايَة من «دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا» هي أيضًا إِحْبَاط كلّ مُحاولات البُورْجْوازِية الرَّامِيَة إلى إِفْـشَال التَـغْيِـيـرات المُجتمعية الثورية التي تُنْجِزُهَا الثورة الاشتراكية. فَـلَا يُـعْـقَـل أن تَـقُـوم طبقة البْرُولِيتَارْيَا بِثَوْرَة مُجتمعية، وَأَن تُطِيحُ بِـ «دِيكْتَاتُورِيَة البُورْجْوَازِيَة»، دُون أن تَتَّخِذَ هذه البْرُولِيتَارْيَا جميعَ التَدَابِير الضَرُورِيَة لِـرَدْع البُورجوازية مِن أن تَـقُوم بِـثَـوْرَة مُضَادَّة، وَلِمَنْـعِـهَا مِن أَنْ تَنْتَـقِم من البروليتاريا. فمعنى «دِيكْتَاتُورِيَة البروليتاريا»، لدى كارل ماركس، هو حُكْم أغلبية الشعب الكادح، أو الديموقراطية الشعبية، أو ديموقراطية العُمال والفَلَّاحِين. ويُفْتَرَض في سُلطة، أو في سَيْطَرَة، البروليتاريا على البرجوازية أنها تَدُومُ مَا دَامت البرجوازية (أو بَـقَايَاهَا) موجودة في المُجتمع. وَهَزْمُ البورجوازية لَا يعني إبادة أفرادها (مثلما ظنّ بعض أَنْصار تِيَّار اسْطَالِين). كما أن «دِيكْتَاتُورِيَة البروليتاريا»، لا تعني بتاتًا إلغاء الحُرِّيَات السياسية، أو نَـفْـي حُقوق الإنسان، التي يلزم أن يتمتّع بها أفراد وجماعات الشعب الكادح.

ومن الشَّائِع لَدَى كارل ماركس، وَلَدَى افْرِيدْرِيشْ إِنْجَلْس، أن مفهوم «الدولة» يعني مُرَكَّـبًا من الأجهزة (والعلاقات المُجتمعية، والأفكار)، التي تستـعملها «الطبقة السّائدة» كَوَسِيلة لِفَرْض، وَلِـمُـمَارسة، سيطرتها الطبقية على باقي الطبقات المَسُودَة في المُجتمع. ولا يُمكن لهذا المُرَكَّبُ مِن الأجهزة أن يكون مُسَيْطِرًا إِلَّا إذا كان مَبْنِيًا على أساس مِيزان قِوَى طبـقـي مُتَـغَلِّب، وَمَنِيع. وَتَسْطُو «طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار» على مختلف أجهزة الدولة، وتَسْتَعْمِلُها بِوَقَاحَة، لخدمة مصالحها الأَنَانِيَة، والخاصّة، وذلك على حِسَاب مصالح طبقات الشعب. بل يَخْتَرِقُ الصراع الطبقي كلّ شيء، بما فيه الدولة وأجهزتها. وَتَعْبَثُ طبقة المُسْتَغِـلِّين الكبار بِمُؤَسَّـسات الدولة كما لو كانت مِلْكِيَة خُصُوصِيَة خاصّة بها. وكلّما أَحَسَّتْ الطبقة السائدة بأن سيطرتها مُهدّدة بالسُّقوط، فإنها تستـعمل التَمْوِيه، وَالتَزْوِير، والكذب، والغِشّ، والنـفاق، وخُصوصًا القَمع الـعَـنِيـف. و كُلَّمَا حاولت طبقة المُسْتَغَلِّين السيطرة على السُّلطة السياسية، تُمارس ضدّها طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار الدِكْتَاتُورِيَةَ، وَالـقَسَاوَة، والقمع، والعُنـف، والفَتْك. ومن منظور ماركسي، فإن ممارسة «الدِّكْتَاتُورية» من طرف الطبقات السّائدة على الطبقات المَسُودة، هي ظاهرة موضوعيًّةوَشَائِعَة في كلّ المُجتمعات الطبقية. وَسَوَاءً لَدَى افْلَادِيمِير لِينِينَ، أم لَدَى مَاوُو اتْسِي تُونْغْ، فإن «ديكتاتورية البروليتاريا»، بمعنى احتـكار السِّلَاح، والعُنـف، وَالسَّيْطَرة الحازمة على الأعداء الطبقيّين، وإعادة تربيّتهم، هي ضرورية. وبدون قمع العدو الطبقي، يستحيل أن تَنجح الثورة، أو أن تستـقرّ طَوِيلًا سيادة طبقة البروليتاريا. لكن عامّة الرأسماليّين وأنصارهم، يقبلون «ديكتاتورية البرجوازية»، ويرفضون «دِيكتاتورية البروليتاريا». وهذا أمر مَفْهُوم.

وَذَكَّرَ شَارْل بِيطَلهَايْم بِمَـقُولَة مُهِمَّة لِفْلَادِيمِير لِينِين حَوْل تَـغْيِير العَلَاقَات بين طَبَـقَـتَي البْرُولِيتَارْيَا والبُورْجْوَازِيَة تحت نظام دِكتَاتُورِيَة البْرُولِيتاريا. حيث كتب لِينِين: «… مِن المُستحيل حذف الطَبَـقَات دَفْعَة واحدة. بَل سَتَبْـقَـى الطَبَـقَات خلال مَرْحَلَة دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا. وسَتُصْبِحُ الدِّيكْتَاتُورِيَة غير صالحة حينما سَتَزُول الطَبَـقَات. لكن هذه الطَبَـقَات لَنْ تَزُول إِلَّا بواسطة دِكْتَاتُورية البروليتاريا… فَتَـدُوم هذه الطَبـقات، لكن كلّ طبقة تَتَحَوَّل خلال مرحلة دِيكتاتورية البروليتاريا.وَتَـتَـغَـيَّـرُ أيضًا العَلَاقَات فيما بين الطبقات. فَلَا يختـفي الصِّراع الطبقي تحت نِظَام دِيكْتَاتُورية البْرُولِيتَارْيَا، وَإِنَّمَا يَتَّخِذُ أَشْكَالًا جديدة ومُخْتَلِـفَة»(6).

وهذه الأطروحة السابقة هي مِن بين أهمّ الإِبْدَاعَات النظرية التي أَكَّدَتْهَا تجربة الثورة الصِّينِيَة. وَقَد سَاهَمَ الحزب الشيوعي الصِّينِي (بِقِيَّادَة مَاوُو تْسِي تُونْغ)، بِأُطْرُوحَة مُشَابِهَة وَمُكَمِّلَة تـقول : «في إِطَار الاشتـراكية، وَلَوْ تحت حُكْم ديكتاتوريّة البروليتاريا، تَسْتَمِرّ الطبقات في الوُجُود، وَيَسْتَمِرّ الصِّرَاع الطبقـي، وَتَتَوَاصَلُ الثورة المُجتمعية». حيثُ أنه، في إطار الاشتـراكية، وَلَوْ تَحت حُكْم ديكتاتورية البروليتاريا، لا يَتَوَقَّـف الصِّرَاع الطبقـي، وإنما يَسْتَمِر بِأَشكال جديدة. بعض هذه الأشكال بَيِّن، وبعضها خَفِيّ. وَيَكُون الحزب الشيوعي الحاكم هو نـفسه مَيْدَانًا لِصِرَاعَات سياسية، وَطَبَـقِيَة، بين خَطَّيْن سِيَّاسِيَّيْن، واحد شِيُّوعِي، وآخر تَحْرِيفِي رَأْسَمَالِي مُسْتَتِر. وَلَا يُمكن لِدِكْتَاتُورِيَة البروليتاريا أن تَـكْـفِـيَ وَحْدَهَا لِضَمَان غَلَبَة الخَطِّ السياسي الثوري. وَتُؤَكِّدُ تجربة انهيّار الاتحاد السوفياتي أن احتمال الرِدَّة مِن الاشتراكية نَحْوَ الرأسمالية يَبْـقَى دائمًا مَوْجُودًا. وَمِن المُمكن أن تَنْشَأ طبقة مُسْتَـغِلَّة بُورْجْوَازِيَة مُمَوَّهَة، في داخل الدولة الاشتـراكية، وحتّى في داخل الحزب الشيوعي الحاكم. ولا نـعرف حَلًّا آخر لِتَلَافِي هذا الانحراف نحو الرأسمالية غير خَوْض الثورة الثـقافية المُتواصلة، وخوض الصراع الطبقـي الثوري، على كلّ الأصعدة، وفي كلّ الميادين. غير أن هذا التوجّه السياسي الحَذِر، أو النَـقْدِي، لَا يُبرّر هَوَسَ رُؤْيَة الأعداء الطَبَـقِـيِّـيـن في كل مكان. وَلَا يُبَرِّرُ الاِفْرَاط في التَصْعِيد، أو في مُعَادَاة كلّ مُخَالِـف. كَمَا لَا يَحِـقُّ اِفْتِـعَال الصِدَامَات، أو المُبَالَغَة في حِدَّة المُوَاجَهَات، إلى درجة عَرْقَلَة إِنْجَاز المَهَام، وتحويل بعض الأصدقاء إلى أعداء. كَمَا لَا يَجُوز تَحويل التـَنَاقُضَات الثَانَوِيَة إلى تـناقضات عَدَائِيَة.

ومن مَنْظُور ماركسي، «ديكتاتورية البروليتاريا» هي فترة تاريخية تستولي فيها الطبقة العاملة كَطَبَقَة على مُجمل السُّلُطات في المُجتمع. وهذا يعني أن البرجوازية لم تَـعُد تُسيطر على الأجهزة السياسية والإدارية. لأن البروليتاريا اِسْتَبْدَلَ تلك الأجهزة القَدِيمة بِتَنْظِيمات أخرى جَدِيدَة، تَتَمَيَّزُ بِـكَوْنِهَا مُرتبطة بالجماهير الثورية في مَوَاقِـع الْاِنْتَاج. وَتَتَّسِمُ هذه التـنظيمات الثورية بِكَوْنِهَا مَـقُـودَة مِن طَرَف البروليتاريا، أَيْ مِن طَرف طَلِيـعَـة البْرُولِيتَارْيَا المُجَسَّدَة في الحزب الطَبَـقِي لِلْبْرُوليتاريا، وهو الحزب الشيوعي الثوري(7). وَهَدف استيلاء البروليتاريا على السُّلُطَات هو تحرير المُجتمع من أُُسُـسِ انـقسامه إلى طبقات، وإزالة الاستـغلال الرأسمالي، وإقامة الحُريات، والعدالة، والمساواة، والبدء في تشييد الاشتراكية. بينما اِسْتَـغَـلَّ جُوزِيف اسْطَالِين (J. Staline) وأنصاره مفهوم «ديكتاتورية البروليتاريا» لِـتَبْرِير فَرْضِ نُـفُوذِهِم في الحزب الحاكم، وفي الدولة. وَانْـزَلَـق اسْطَالِين وَأَنْصَارُه في مُمَارَسَة الاستبداد الشخصي للزَّعِيم المُطلق، ضِدَّ كل المواطنين (بِمَا فِيهِم أعضاء الحزب الشيوعي وَقِيَّادِيِّيه). وكان اسْطَالِين وأنصاره يُـعَادُون كلّ الأشخاص الذين يُخالفُونَهُم في الرأي. وكانوا يُنَازِعُون كلّ الذين يُحتمل فيهم أنهم يُنَافسونهم حول مناصب المسؤولية. وَكَانُوا يُضَايِـقُـون كلّ الذين يُعارضوا سُلُوكِيَّاتهم. ولِبُلُوغ أهدافهم، استعمل اسْطَالِين وأنصاره البوليسَ السياسيَ، والاتهامات المُصطنـعة، والمُحاكمات المَغْشُوشة، والاعتـقالات في مُعسكرات “الجُولَاجْ” (Goulag). واستخدم اسْطَالِين وأنصاره حتّى الإعدامات. وهذا تحريف مَفْضُوح لِلنظرية الماركسية. وإذا كانـت بعض أهداف اسْطَالِين وأنصاره نضالية، فإن بعض أهدافه الأخرى كانـت مَحْصُورَة في خِدمة مصالح شخصية ذاتية، أو انتهازية.

وكان مَفْهُوم «دِكًتَاتُورية البْرُولِيتَارْيَا» لَدَى افْلَادِيمِيرْ لِينِينْ يختلف نِسبيًّا عن مَفهومها لَدَى كارل ماركس. وكان مفهوم «دِكًتَاتُورية البْرُولِيتَارْيَا» لَدَى ماركس يَتعلّق خُصوصًا بالطبقة العاملة كَطَبَقَة، في علاقاتها بطبقات المُجتمع الأخرى، وخاصّة منها الطبقة البرجوازية. لكن لِينِين أَلْصَقَ صِفَةَ «طَلِيعَة البروليتاريا» بالحزب الشيوعي. فَتَـقَوَّت فكرة وُجود علاقة خَاصَّة وَطِيدَة بين ”الحزب الشيوعي“ و”الطبقة العاملة“ (أو البْرُولِيتَارِيَا). بينما هذه العلاقة (بين الحزب والطبقة)، وَإِنْ كَانَتْ مُمْكِنَة خلال بعض الفترات التاريخية المُحَدَّدَة، فإنها ليست لَا آلِيَة،ولَا مَضْمُونة، ولَا دَائِمة. وإذا كان بالإمكان بناء هذه العلاقة بين الحزب الشيوعي والطبقة العاملة، فبالإمكان أيضًا فُـقْدَانُ هذه العلاقة بسهولة. وبعد وفاة لِينِين (في سنة 1924)، وفي ظروف تاريخية قَاسِيَة من الصِّراع الطبقي، خَلَفَهُ جُوزِيفْ اسْطَالِين في الحُكم. وذَهَبَ تِيَارُ اسْطَالِين بعيدًا، وأكثر من لِينِين، في تَأْوِيل وتَبْسِيط أُطْرُوحَة «دكتاتورية البروليتاريا».

وحَوَّلَ تِيَار جُوزِيف اسْطَالِين أُطْرُوحَة «دِكًتَاتُورية البْرُولِيتَارْيَا» إلى حُجَّة نَظَرِيَّة ماركسية لِتَبْرِيرِ «دِكًتَاتُورية الحزب الشيوعي» الحَاكِم. ولَوْ أن طبقة «البْرُولِيتَارْيَا» لَا تَـتَـطَابَقُ مع «الحزب الشيوعي». ثمّ حَوَّلَ تِيَار اسْطَالِين مَفْهُومَ «ديكتاتورية الحزب الشيوعي» الحَاكم، إلى «دكتاتورية قِيَادَة الحزب» (التي يُـفْتَرَضُ فيها أنها جَمَاعِيَة). ثمّ حَوَّلَ تِيَّار اسْطَالِين «دكتاتورية قِيَادَة الحزب» إلى «ديكتاتورية زَعِيم الحزب الشيوعي»، والذي هو شَخْصُ جُوزيف اسْطَالِين بالذّات. وَفَرَضَ اسْطَالِين أطروحة «الحزب الوحيد». وألغى الديمقراطية في المُجتمع، وحتّى في الحزب الشيوعي. وبواسطة التخويف، والترهيب، حَوَّلَ اسْطَالِين أَعْضَاء الحزب الشيوعي إلى شِبْه قَطِيع من الأَتْبَاع الخَاضِعِين. وكل هذه التَّأْوِيلَات لا يُوجد لها أي دَاعِ، أو مُبرّر، في النظرية الماركسية. (وحتّى إذا وُجِدَ مَا يُبَرِّرُها في الماركسية، فَيَنْبَغِي تَصحيحه). وَلَمْ يَسبق لكارل ماركس أن نَادَى بِضَرُورة تحويل «دِيكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا» إلى«ديكتاتورية الحزب».

وقد سبق لِـ لِيُون اتْرُوتْسْكِي (Léon Trotsky)، خاصّة في مُؤتمر الحزب في سنة 1903، ثم في كُرَّاسِه النـقدي المُعَنْوَن بِـ “مَهامّنا السياسية”، والمنشور في سنة 1904، أن عبّر عَن حَذَره مِن خطر سياسة “التَعْوِيض” (substitutisme) التي تظهر في بعض أساليب العمل لدى إِلِيتْشْ لِينِين (Illich Lénine). وهذا “التَـعْوِيض” يَرْمي إلى تَعْوِيض الطبقة العاملة بِالحزب، وإلى تـعويض مُجمل الحزب بِْاللَّجْنَة المَركزية، ثم تـعويض اللجنة المركزية بِقَائِد مُسْتَبِد(8). وكان هذا النـقد مُشتـركا بين لِيُّون اتْرُوتْسْكِي، وَرُوزَا لُوكْسَامْبُورْغ (Rosa Luxembourg). ورغم أن نـقد لِيُون اتْرُوتْسْكِي لِـ إِلِيتْشْ لِينِين، الوارد في مقالته “مهامّنا السياسية”، كان مُبالغًا فيه نِسْبِيًّا، فَـقَـد أَثْبَتَ لَاحِقًا تاريخ السْطَالِينِيَة في الاتحاد السوفياتي أن حَدْسَ لِيُّون اتْرُوتْسْكِي كان صائبًا.

وَطَوَّرَ اسْطَالِين منهجًا خاطئًا في معالجة التناقضات السياسية داخل الحزب، وداخل الشعب. فَكُلَّمَا وُجِدَ خِلَاف، أو تَـنَـاقُـض، بين فَـاعِـلَـيْن سِيَاسيّين مُحَدَّدَين، لَجَأَ اسْطَالِين إلى تَصْفِيَة أحد الفَـاعِـلَـيْـن من الوجود. ولَم يكن اسْطَالِين يُدْرِكُ أن معالجة التناقض المذكور تَـقْتَضِي تَـقْوِيمَ الفاعل المُخْطِئ، أو تَـغْيِـيـر الفَاعِلَيْنِ مَعًا، وليس تَهْمِيش أحدهما، أو إِقْصَاءِه، أو قتله. وعَمَّمَ اسْطَالِين مَنْهَجَ الاعتماد على المخابرات البُوليسية لِتَدْبِير الخلافات والصراعات السياسية، سواءً داخل الحزب، أم داخل المُجتمع. وهكذا تحوّل ”زَعِيمُ الحزب” (اسْطَالِين) إلى شبه إِلَـه مُسْتَبِدّ، يُقَرِّرُ بدون رقابة، ولا محاسبة، مَن يستحق أن يَشْغَلَ مَنْصِبًا مُعيّنًا، ومن تَتَوَجَّبُ إِقَالَتُه، أو تَهْمِيشُه، أو سِجْنُهُ، أو حتى قَتله. وكان اسْطَالِين يَحْرُص على إِثْبَات أو تَأْكِيد اِسمه المُستعار (اسْطَالِين)، والذي يعني في اللغة الرُّوسية “الفُولَاذِي” (en acier)، بمعنى الصَّلَابَة، والقَسَاوَة. كأن اِسم الشخص هو الذي ينبغي أن يُحَدِّد نوعية سُلُوكِه. وكان حُـكْم اسْطَالِين قمعيًّا، أو إرهابيا. ومُعظم أُطُر الحزب سَايَرُوا، أو سَانَدُوا، أو قَبِلُوا، «دِيكْتَاتُورية» جُوزِيـفْ اسْطَالِين، بِسَبَبِ خوفهم من بَطْشِه.

واستـعملت القيادة السْطَالِينِية أطروحتَيْ «ديكتاتورية البروليتاريا»، و«الحزب الوحيد»، لِتبرير إِلْغَاء الديموقراطية مِن المُجتمع، وحتى من الحزب الشيوعي الحاكم. ومَدَّد تِيَار جُوزِيف اسْطَالِين هذين المفهومين إلى حَدِّ مَنْع وجود الخلافات السياسية داخل هذا الحزب! وكان اسْطَالِين وَأَنْصَارُه يَزْعُمُون أنهم يَعملون بِأسلوب «الإِجْمَاع» داخل الحزب. وَكانوا يَتَـعَامَلُون مَع الخلافات السياسية كأنها ظَاهِرَة غير عادية، وغير مَـقْبُولَة. ويفضح هكذا اسْطَالِين وأنصاره مَدَى جهلهم للثـقافة، وللفلسفة. حيث قَلَبُوا الأُمُورَ عَلى رَأْسِهَا. فَالتَـفَاوُتُ في الآراء السياسية (والذي هو ظاهرة عَادية وشائعة)، اعتبروه جريمة لَا تُغْتـفَر. والإِجْمَاع على رأي سياسي واحد (والذي هو ظاهرة نَادِرَة، أو مُسْتَحِيلَة)، اعتبروه واجبًا إِجْبَارِيًا في كلّ شيء! وجاءت تجربة الثورة الصينية لِتُكَذِّبَ الكثير مِن المُعتـقدات السْطَالِينِيَة السَّابِـقَة. وَأَكَّـدَت الثورة الصِينِيَة ضرورة استمرارية النضال الثوري، والصراع الطبقـي الثوري، وَلَوْ تَحْتَ حُكْم «دكتاتورية البروليتاريا». وهكذا شَنَّت قِيّادة الحزب الشيوعي الصيني، بِزَعَامَة مَاوُو تْسِي تُونْغْ، «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى».

واسْتَعْمَلَ اسْطَالِين أطروحتي «ديكتاتورية البروليتاريا»، و«الحزب الوحيد»، لِتبرير إقامة، وترسيخ، نظام سياسي مبني على أساس «الرأي الوحيد»، و«الإجماع» الشكلي، والمُزَيَّف. ولم يَسْبِقْ لِكَارْل مَاركس، ولَا إِلَى افْلَادِيمِير لِينِين، أن دافعا عن أطروحة «الحزب الوحيد»، أو «الرأي الوحيد»، أو «الإجماع الإجباري». بينما أَخْضَعَ تِيَار اسْطَالِين “السُّوفْيِيتَات” (soviets) (التي هي مجالس العُمال والفَلاحين والجُنود) إلى دِكتاتورية الزَعِيم الوَحيد، لِلْحِزب الوَحِيد. ومع إِحْكَام هَيمنة اسْطَالِين على “السُّوفْيِيتَات”، تَأَكَّد أن الطبقة العاملة (أو البروليتاريا) هي خَاضِعَة ومَسُودَة، وليست سَائِدَة. وقَمَعَ اسْطَالِين كل مبادرات السُّوفْيِيتَات، أو حركاتها، التي كان يُحتمل أن تتحوّل إلى سُلطة مُـقْتَـرِحَة، أو نَاقِدَة، أو مُعَارِضَة. وساعد نظام «الحزب الوحيد» على تَكَوُّن وَنُمُو “بِيرُوقْرَاطِيَة برجوازية” من صنـف جديد، وهي “النُّومُونْكْلَاتُورَا” (Nomenklatura). وميزة هذه “البِيرُوقْـرَاطِيَة” (الموجودة في الحزب، وفي الدولة السُّوفْيَاتية) هي أنها تُبَارِكُ كل ما يُقرّره الزعيم اسْطَالِين، ولو كان سياسةً حَمقاء. وتَسْتَـغِلُّ هذه «البِيرُوقْرَاطِيَة» مسئولياتها في الحزب، أو في إدارات الدولة، لكي تَـفْلِتَ من المُحَاسَبَة، ولِكَيْ تحصل على مداخيل كبيرة نِسْبِيًّا، أو على امتيازات مادية. ونَاصَرَت هذه “البرجوازية البيروقراطية” قمع الحريات السياسية، وسَانَدَت إلغاء مُجمل التدابير الديموقراطية التي سبق للثورة أن أقامتها خِلَال بِدَايتها.

وتعدَّدت «الحَمَلَات التطهيرية» (purges) خلال حُكم اسْطَالِين، وتَوَاصَلَت بِلَا توقّـف. وأعترفُ أنه مِن حَقّ الحزب الشيوعي أن يلجأ، عند الضرورة، إلى «حَمْلَة تَطْهِيرِيَة»، بِهَدف سَحْب العُضْوِيَة من أعضاء الحزب الذين لَم يَـعُودُوا يستحقّون الانتماء لِهذا الحزب. ويمكن أيضًا للحزب الشيوعي أن يَطْرُد من الحزب الأعضاءَ الذين تَبَيَّنَ، بِالتَحْقِيـقَات، وَبِالحُجَج الملموسة، أنّهم مُنْدَسِّين، أو يَمِينِيِّين، أو وُصُولِيِّين، أو انتهازيين، أو أنانيّين، أو مُجرمين، أو غير مُلْتَزِمِين بالمبادئ الثورية. لأن العُضْوِيَة في الحزب الشيوعي ليست مِلْكِيَة شخصية، وَلَا مِيزَة دَائِمَة، وَإِنَّمَا هي صِفَة حزبية مشروطة بالالتزام بمبادئ مُحَدَّدة، مُسَطَّرة في القانون الداخلي للحزب. بَينما طَرْدُ هَؤلاء الأشخاص من المِهْنَة، أو حَبْسُهم في السِّجْن، أو إِعْدَامُهُم، لَا يَحِقُّ أن يكون شَرْعِيًّا إِلَّا إذا صَدَر على شكل عُـقوبات عن قَضَاء مُسْتَـقِل، ومُحَايِد، في إطار مُحاكمة عادلة. حيث يجب التَمييز بين شؤون الحزب، وشؤون القانون القائم. وحتى إذا «اعترف» مُتَّهَمُون أمام المحكمة بِالتُّـهَـم المُوَجَّهة إليهم (مِثْلَمَا كان يحدث مثلًا في «مُحاكمات مُوسْكُو» المَغْشُوشَة، بين سنتي 1936 و 1937)، فإن هذا «الاعتراف» لَا يُشَكِّلُ حُجَّة كَافية لِإِثْبَاتِ ارتكابهم للجرائم المنسوبة إليهم. وفي حالة إذا لم يُوجد في المِلف القضائي لهؤلاء المُتَّهَمِين سوى هذا «الاعتراف» كَـحُـجّـة إِثْبَاتِيَة، يَنْبَغِي على القضاء، في هذه الحالة، أن يطلق سراح هؤلاء المُتَّهَمِين. إذ مِن المعروف أن أنصار اسْطَالِين كانوا يُجبرون المُتَّهَمِين السياسيين على «الاعتراف» بالجرائم المُصْطَنَعَة المَنسوبة إليهم (بواسطة التهديد، أو بواسطة وُعُود كَاذِبَة، أو مُخَادِعَة، مثل وَعْدِهِم بِإِطلاق سراحهم، وَإِلغَاء التهم الموجّهة إليهم، إن هم ”اِعْتَرَفُوا”)، ثم يُصدرون أحكامًا بالإعدام على هؤلاء المتّهمين، بِِحُجَّة وجود «اعترافهم» الحُرّ أمام المحكمة !

والغريب هو أن أنصار جُوزِيفْ اسْطَالِين كانوا، أو مَا زَالوا إلى حدّ اليوم، يُدافعون عن أساليبه العَنيفة،أو المُخَادِعَة،في مجال خوض الصراع السياسي داخل الحزب. ومن المعروف أن اسْطَالِين تَجَرَّأَ على سِجْن أو قَتْلِ الكثيرين من قَادَة الحزب الشيوعي، ومن قادة الجيش الأحمر، الذين كان جُوزِيف اسْطَالِين يَخَافُ مِن احْتِمَال أن يُخَالِفُونَه في الرّأي، أو أن يُنَافِسُونه على الزَّعَامة. ومن أبرز الأمثلة، أن اسْطَالِين أمر بِطَرْد لِيُون تْرُوتْسْكِي من الحكومة (في سنة 1924). ثمّ أمر اسْطَالِين بطرد اتْرُوتْسْكِي من قيادة الحزب. ثم طَرَدَه من العُضوية في الحزب (في 1927). ثم قَرّر نَـفْيَه إلى خارج الاتحاد السوفياتي (في 1929). ومعروف أن لِيُون تْرُوتْسْكِي كان، إلى جانب لِينِين، من أكبر مُهَندسي ثورة أكتوبر 1917. وكان اتْرُوتْسْكِي خلال عهد لِينِين هو رئيس الجيش الأحمر، و«كُومِيسِير الشعب في الشُّؤُون العسكرية والبحرية». ورغم أن تْرُوتْسْـكِي هرب من رُوسيا إلى المِكْسِيك، بعث له اسْطَالِين عناصر بُولِيسِية لكي تَغْتَالَه. ورغم فشل أربعة أو خمسة محاولات لقتل تْرُوتْسْكِي، كرّر اسْطَالِين هذه المحاولات حتى نجح في قتله في سنة 1940. وحوّل اسْطَالِين وسائل التجسّـس، والاختطاف، والتعذيب، والمحاكمات الصورية، والسجن في مُعَسْكَرات “الجُولَاج” (Goulag)، إلى وسائل عادية، وقانونية، وشائعة، ودائمة، في إدارة الخلافات السياسية في الحزب، وفي المُجتمع. وَتَـتَـنَافَى كُلِّيًا هذه الأساليب، ليس فقط مع الماركسية، ومع الاشتراكية، بل أيضًا مع أبسط الأخلاق الإنسانية. ولا يُقْبَلُ تبريرها بأيّ اعتبار كان. بل هي جرائم لَا تُغْتـفَر. وكل الأشخاص الذين يُساندون بِعِنَاد اسْطَالِين، سيرفضون فَوْرًا هذه الأساليب القمعية المُسْتَبِدَّة، في حالة إذا مَا طُبِّـقَت ضِدَّ هؤلاء الأشخاص هم أنـفسهم !

وخلال سنوات 1970، كُنَّا في «الحركات الماركسية اللِّينِينية» بالمغرب، نـقَدِّر جُوزِيف اسْطَالِين ونُعَظِّمُه. وكنا نضع اسْطَالِين تـقريبًا في مرتبة افْلَادِيمِير لِينِين، وكَارْلْ مَارْكِسْ. وكُنَّا نُصَدِّق الزَّعْم الذي يقول أن اسْطَالِين طَوَّر النظرية الماركسية وأغناها، تمامًا مثلما فعل لِينِين. ولم تكن تصلنا الوثائق الرَّصِينَة، والجَيِّدَة الاِطِّلَاع، حول تـفاصيل تطور الصراع الطبقي، والصراعات السياسية، التي حدثت خلال مجمل عهد اسْطَالِين. وخلال سنوات 1985، لمّا بَدأنا نَطَّلِع (داخل السجن المركزي بمدينة القُنَيْطِرَة بالمغرب) على بعض هذه الوثائق، اكتشفنا أننا كُنَّا سَاذَجِين، أو مَخْدُوعِين، أو ضَحَايَا دِعَايَة مُخَادِعَة.

وهذه الأساليب السْطَالِينِية العنيفة، في تدبير الخلافات السياسية داخل الحزب، تـفضح هَزَالَة التكوين الفلسفي لدى اسْطَالِين وأنصاره، وتُعَرِّي ضعف تكوينهمالثـقافي، وضحالة أخلاقهم السياسية. وتُعبِّر هذه الأساليب الدَمَوِيَة عن وجود صراع غَيرمَبدئي، بل تَنَاحُرِي، حول السلطة داخل الحزب. وتلتـقي هذه الأساليب التَصْفَوِيَة بِالمَقُولَة المَاكْيَافِيلِيَة «الغَايَة تُبرّر الوَسِيلة». وكل حزب يعمل بهذه الأساليب، حتى لَوْ كان يدّعي أنه «اشتراكيًا»، أو ٍ«شيوعيًا»، سَيَنْـفَضِـح أنه في الواقع عِصابة من المُجرمين، أو الجُهَّال. ويظنّ اسْطَالِين وأنصاره أن اسْطَالِين يُشَكِّل امتدادًا لِـلِينِين، ومَارْكِسْ، وإِنْجَلْسْ. بينما اسْطَالِين بَعِيد جدًّا عن أن يصل إلى هذه المرتبة.

ولو كان اسْطَالِين سياسيا مُثـقَّفًا، لكانت ثِـقَتُهُ أكبر في نـفسه، وفي مُـقَارَعَة الحُجَج السياسية بأخرى تكون أكثر عِلْمِيَةً، وعَقْلَانِيَةً. ولَوْ كان يَثـقُ اسْطَالِينُ في قُوَّة المَنْطِق، لما استعمل مَنطق القُوة، في معالجة الخلافات السياسية داخل الحزب، وداخل المُجتمع. ولو كان اسْطَالِين يَثـقُ في عُقُول أعضاء الحزب الشيوعي، لَمَا خَافَ من تأثير أفكار مُنَافِسِيه السياسيين. ولو لم يكن اسْطَالِين مُجرّد مُستبد جاهل، لَمَا كان يستعمل «حُجَّة السُّلْطَة»(9) السياسية، بَدَلًا من استعمال السُّلْطَة المَعْنَوِيَة لِلحُجَّة العَقْلَانية.

ولم يكن اسْطَالِين وأمثاله يُدْرِكُون أن الصراعات السياسية داخل الحزب، يَلْزَمُ أن تـكون بَحْثًا مُتَوَاضِعًا وَجَمَاعِيًّا عن الحَقيقة، وليس صِراعا وُجُودِيًا، أو تَنَاحُرِيًّا، حول غَنَائِم حَاسِمَة. وما لم يكن يُدْرِكُه اسْطَالِين وأنصاره، هو أنهم حينما كانوا يَقْتُلون خصومهم السياسيين، أو المُحْتَمَلِين، في الحزب الشيوعي، فإنهم كانوا يَقْتُلُون أنـفُسَهُم. بل كانوا يغتالون الرُّوح الشيوعية، في الحزب، وفي المُجتمع، وفي العَالَم. و«الاشتراكية» التي تـقبل هَلَاكَ، أو سَحْقَ، أو قَتل، من يُخَالِفُنا في الرأي، وفقط بِسبب هذه المُخالفة في الرَّأي، تتحوّل إلى مَافْيَا. وفي إطار هذا الإرهاب الفِكْري، لَا يمكن أن تكون السياسة عَقْلَانِية، ولَا يمكن للعقل أن يزدهر.

وهذه الأساليب الحَمقاء، التي دامت خلال عهد اسْطَالِين كلّه (من 1922 إلى 1953)، شَارَكَت في إضعاف الحزب، وساهمت في تَهْـيء ظُروف انهيار مُجْمَل منظومة الاتحاد السوفياتي. وفي حالة اسْطَالِين، نرى كيف أن شخصًا بئيسًا يمكن أن يُؤَثِّر سَلبًا على مصير أكثر من مئة مليون شخص. وحينما نتكلّم عن جُوزِيف اسْتَالين، فإننا لَا نَـقصد فقط شخصه، وإنما نعني، في نفس الوقت، مَا يُوجد وراء رَمْز الشخص جُوزيف اسْطَالِين، كَـتِيَار سياسي، وكَطَبَـقَة مُجتمعية (أي البورجوازية البيروقراطية الناشئة في الحزب وفي الدولة، أو “النُومُونْكْلَاتُورَا” [Nomenklatura]).

وسيكون من الحُمْق السياسي أن نُعَبِّئَ الجماهير لِخَوْض الثورة المُجتمعية، أو لِإِنْجَاز الثورة الاشتراكية، ومباشرة بعد وصولنا إلى السلطة، نَلْجَأُ إلى مُمَارَِسَة دِيكتاتُورية عَنِيفَة وشاملة، ضِدَّ هذه الجماهير، وضِدَّ كل من يُحْتَمَل أن يَتَحَوَّل إلى خَصْمٍ سياسي لنا. فلا يمكن أن نبني الاشتراكية بِالكَذِب، أو بالغَدْر، أو بِالقَهْر، أو بِالغِشِّ، أو بِالدَّسَائِس، أو بالخِداع، أو بِالنـفاق.

وَتَحْدُثُ بِالضَّرُورة مثل هذه الانحرافات السْطَالِينِية، وهذه الكوارث، كلّما سمح أعضاء الحزب لأفراد مُعَيَّنِين بِتَحمّل مسؤوليات قيادية، رغم ضُعف تكوينهم الثـقافي، أو رغم النـقص الحاصل في التزامهم بِالمَبَادِئ السياسية، وبالأخلاق الثورية.

ونجد أن الاستخفاف بالأخلاق، (سواءً في العمل الحزبي، أم السياسي، أم المؤسّـساتي)، كان من بين الأخطاء القاتلة التي أُرْتُكِبَت خلال حُكْمِ جُوزِيفْ اسْطَالِين. وفي مجالات الصراعات السياسية، (سواءً داخل الحزب، أم داخل الدولة، أم داخل المُجتمع)، اسْتَعْمَلَ جُوزِيفْ اسْطَالِين وأنصاره، أساليب الخِدَاع، والتَدْلِيس، والنـفاق، والكذب، بهدف هزم المُعارضين، أو تهمِيش الخُصوم، أو حتى تصفيتهم. واستعمل اسْطَالِين أحيانًا لهذا الغرض محاكمات سياسية مَغْشُوشة. ولم يكن يُدرك جُوزِيف اسْطَالِين وأنصاره أنه، كلما استعمل الحُكَّام أساليب الخِداع، أو المَـكْر، فإن عامّة الشعب ستلجأ بالضرورة، هي أيضًا، إِنْ عَاجِلًا أم آجِلًا، إلى تـقْلِيدِهم. وبعدما تَنْتَشِر عَدْوَى النـفَاق، والخِداع، داخل عُموم الشعب، يسقط المُجتمع بكامله في الفساد، وفي الانحطاط(10)، ثمّ يَتَّجِهُ مصيره نحو الخَرَاب.

وإذا كان الاختيار مَطْرُوحًا هكذا (من منظور أنصار جُوزِيف اسْطَالِين): «إمَّا قتل مُعارضي الاشتراكية، وإمَّا فشل أوّل تجربة لِبِنَاء الاشتراكية»، فأنا شخصيا أُفَضِّلُ فشلَ تجربة بناء الاشتراكية على اضطهاد، أو قتل، معظم المُعارضين السياسيين. لأنني أُدْرِكُ، أَوَّلًا، أن الاشتراكية تتنافى مع الاضطهاد. ولأنني أعرف ثانيًا، أن دِينَامِيَة اضطهاد، أو قتل، نسبة هامّة من المعارضين، سيؤدِّي حتمًا إلى فشل تجربة بناء الاشتراكية. وثالثًا لأنني تَعَلَّمتُ كيف أهزم الرِّجعيِّين والمحافظين بواسطة ثورة ثـقافية جماهيرية سِلمية وَمُتَوَاصِلَة.

ويَرْفُضُ العَقل، وكذلك العَدْلُ، مَنْهَجَ التصفيات الجسدية الوَاسعة. لأن هَدَف الثورة الاشتراكية المُجتمعية، هو تـقْوِيم المُخْطِئِين، وإصلاحهم، وتثويرهم، وليس قَتْلَهُم. وهو ما لم يكن يفهمه اسْطَالِين وأنصاره. ولِبُلُوغِ تـقْوِيم المُخْطِئِين، نستعمل دِينَامِيَة «الثورة الثـقَافِيَة الجماهيريةالسِّلْمِيَة المُتَوَاصِلَة»(11). فَكَيْفَ يُمكن لِمَن لا يقدر على إقناع غالبية الكادحين بالحاجة إلى الاشتراكية، أن يستطيع تشييدها؟ أمَّا إذا تَـبَـنَّـت غالبيةُ الكادحينَ الاشتراكيةَ، فلا حاجة إلى اضطهاد الأقلية المعارضة لها. ومِن بين الفُرُوقَات في مَا حدث في رُوسْيَا والصِّين، هو أن تِيَار اسطالين غَلَّبَ مَنْهَج تَصْفِيَة المُخالفِين والمعارضين، بينما تِيَّار مَاوُو تْسِي تُونْغْ فَضَّل أسلوب “الثورة الثـقافية الجماهيرية المُتواصلة”. وهذه الأخيرة تُبْـقِي المعارضين أحياء، وتُصَلِّتُ عليهم نـقد وضغط الجماهير الكادحة الثورية.

وكُلَّمَا ظهرت خلافات في الرأي، يُمكن أن تتحوّل (هذه الخلافات) إلى صراعات سياسية. ولِتَسْهِيل مُعالجة الخِلافات السياسية، يُستحسن أن نَـرْبِـط الخلافات في الرأي بِخلافات مُحتملة في المصالح المادية. كما يمكن أن تتحوّل هذه الصراعات السياسية إلى صراعات فلسفية. وَيُمكن أن تَتَحَوَّلُ الصراعات الفلسفية هي نـفسُها إلى خلافات عِلْمِيَةً. وَمِن المَـعْرُوف أن الخلافات العِلْمِيَة، لا تُحْسَمُ بالقُوَة، وإنما تُحسم بالبَحث العِلمي، وبالجِدَال العِلْمِي، وبالصّراع السياسي الجماهيري، وبالثورة الثـقافية الجماهيرية السِّلْمِيَة والمُتَوَاصِلَة.

ومثل تلك السُّلُوكِيَات القمعية (المعروضة سابقًا)، تُبَيِّن أن اسْطَالِين وأنصاره يعتـقدون أن «الثورة الاشتراكية» الانتـقالية تَتطابق مع «ديكتاتورية البروليتاريا». ويظنّون أن «ديكتاتورية البروليتاريا» تعني، وتُبَرِّر، إلغاء الديمقراطية، وحذف الحريات السياسية. وهذا تصوّر يتحامل على الماركسية، ويتناقض معها. وكل «ثورة اشتراكية» لَا تُحَقِّق الحرّية لِمُجمل الشعب، والكَرامة، والعَدل، والديمقراطية، فستكون مُجَرَّد صِنـف من أصناف الاستبداد.

وأكبر حَمْلَة قمعية خاضها اسْطَالِين، هي “التَطْهِيرَات الكُبرى” (Les Grandes Purges). ودَامت تـقريبًا بين سنوات 1930 و 1938. وأوّل ضحايا قمع اسْطَالِين هم نُخَب الحزب الشيوعي، ومناضلوه المَشْهُود لهم بتضحياتهم، وَبِـثَـقَافَاتِهِم. وَنَجِدُ كذلك ضِمْنَ هؤلاء الضَحَايَا، ضُبّاط الجيش الأحمر، ثم عامّة الشعب. وكانت مُعظم الاِتِّهَامَات (المُوَجَّهَة لهؤلاء الضَحَايَا) عَشْوَائِيًّة، أو زَائِـفَة، أو خَيَالِيًّة، أو وَاشِيًَّة، أو انتـقاميًّة. وكان الأشخاص المُصَنـَّفُون بِكونهم «أعداء الشعب» يُتَّهَمُون عادةً بِـ «الانحراف اليميني»، أو «التخريب الاقتصادي»، أو «الانتماء إلى تِيَّار التْرُوتْسْكِيَة»، أو «المشاركة في تَآمُر أجنبي»(12). وأُدِينَ بشكل ظَالِم المَلَايِينُ من الأشخاص الأَبْرِيَاء. والكثيرون من المُتَهَمِين بِمُعارضة سياسة اسْطَالِين، لم يكن لهم أيّ نشاط مُعارض مَلْمُوس. وَلَوْ أن سياسات اسْطَالِين الحمقاء كانت تستوجب المُعارضة. فكان يَـكْفِي الشَكُّ في كَوْنِ أَشْخَاص مُـعَـيَّـنِـيـن مُعارضين مُحْتَمَلِين، لكي يُتَابَـعُـوا، وَيُدَانُوا. وَسَهَّلَ هذا الانْزِلَاق في المفاهيم، أو في المَرَاجِع النظرية، ارْتِكَابَ الكثير من الخُرُوقَات، والمُخالفات، وحتى الجرائم. وبِمَنْهَج سُلْطَوِي، اِسْتَـغَلَّ جُوزِيف اسْطَالِين وأنصاره أطروحة «ديكتاتورية البروليتاريا». وخلقوا بيئة سياسية يُهَيْمِنُ فيها إرهاب الحزب الشيوعي، أو إرهاب الدولة. ولجأ اسْطَالِين وأنصاره إلى اضطهاد كل مَنْ يُفْتَرَضُ فيهم أنهم يُخَالفونهم في الرأي. وقاموا بِتَصْفِيَة كل من يَشُكُّون في كونهم مُعَارِضِين مُحْتَمَلِين. وَفَضَحَت هذه المناهج القمعية، المُطبّـقة على نِطَاق مُجتمعي، أن جوزيف اسْطَالِين كان مُصَابًا بمرض الشَّك، والعَظَمَة، والاِضْطِهَاد (paranoïa).

ولم تـكن هذه «الحَملات القَمعية»المُتَلَاحِقَة مُمكنة في الاتحاد السوفياتي إلَّا لأن مُعظم أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم فَقَدُوا الرُّوح النـقْدِيَة، وأصبحوا يُفضِّلُون إنـقاذَ حياتهم (خَوْفًا من بَطْش اسْطَالِين وأنصاره) على المُخاطرة بِالدِّفَاع عن المبادئ الثورية. وكيف يمكن لأعضاء الحزب الشيوعي أن يتجرؤوا على معارضة سياسات اسْطَالِين، بينما هم يعرفون أن هذه المعارضة، ستـكون عقوبتها الأكيدة والفورية، هي الحُكم عليهم بِالإعدام بتهمة «التآمر ضد الثورة الاشتراكية»؟

و«عند مَارْكِسْ، ولِينِين، لَا يُمكن فصل الثورة الاشتراكية عن الثورة الديمقراطية، بينما اسْطَالِين ألْغَى كُلِّيًا الديمقراطية» (سمير الخطيب)(13).

وَأمام مَناهج اسْطَالِين، تَتَسَارَعُ التَسَاؤُلَات التالية في الذّهْنِ: هل طبقة البْرُولِيتَارِيَا (prolétariat) هي حَقًّا التي كانت طبقةً سَائِدَة في المُجتمع خلال عهد افْلَادِيمِير لِينِين (1917–1922)، ثم خلال عهد جُوزيفْ اسْتَالِينْ (1922–1953)؟ ولماذا وَعَدَ البَلَاشِفَةُ (bolchevik) بصيانة حرّية النـقد، في أيّ ظرف سياسي كان، لكن بمجرّد أن فَرض تِيَار جُوزيف اسْطَالِين سيطرته على الحزب، وعلى الدولة، أصبح عمليًا النـقْدُ ممنوعًا، سواءً خارج الحزب، أم داخله؟ ولماذا قتل جُوزِيـف اسْطَالِين، وباسم «دكتاتورية البروليتاريا»، نسبةً كبيرة من أفراد قيادة الحزب البَلْشَفِي الذي تركه افْلَادِيمِيرْ لِينِين؟ ولماذا قَتَل، أو سَجَن، أو اِضْطَهَدَ، جُوزِيفُ اسْتَالِينُ، ملايينَ من المواطنين المُتَّهَمِين بالمُعارضة، أو بالمُقاومة، أو حتى بمخالفة آراء الحزب(14)؟ ولماذا بَـقِيَ مُعظمُ أعضاء الحزب، مَشْلُولِين بالخوف، أو مُجْبَرِين على الخُضُوع، أمام هذه السياسات السْطَالِينِية القمعية؟ وهل أطروحة «دكتاتورية البروليتارية» هي التي سَهَّلَت تَحَمُّلَ سياسات الاضطهاد؟ ولماذا اسْتَغَلَّتْ قيادة الحزب الشيوعي أُطْرُوحَة «دكتاتورية البروليتاريا» لتبرير الاستبداد باسم الطبقة العاملة؟ وكيف يُمكن أن تُوجد «دكتاتورية البروليتاريا»، بينما أَصْبَحَت «السُّوفْيِيتَات» (soviets) في عهد اسْطَالِين مَرْهُوبَة، أو مَقْمُوعَة، أو مُتَحَـكَّم فيها؟ وهل الطبقة العاملة هي حقّا التي مارست «دكتاتورية البروليتاريا»، أم أنَّ مَنْ طَبَّقَهذه «الدِّكْتَاتُورِيَة»هم بِضْعَةُ أشخاص في قيادة الحزب الشيوعي؟ وهل كانت الطبقة العاملة طَبَقَة لِذَاتِهَا (pour soi)، أم أنها كانت طَبَقَةْ مَسُودَة، أم مَخْدُوعَة؟ وهل أُطْرُوحَة «دكتاتورية البروليتاريا» سَلِيمَة؟ وهل المُشكل يوجد في تطبيق النظرية، أم أنه يوجد في صُلْب النظرية نـفسها؟

وقد نَبَّهَ شَارْل بِيطَلْهَايْم إلى أن «السًّلْطَة السياسية» ليست «شَيْئًا»، أو «إدارة»، أو «جِهَازًا»، أو «مُؤسّـسة»، يمكن الاستيلاء عليها، أو احتـكارها، وإنما «السّلطة السياسية» هي أساسًا مِيزَان قِوَى مَوْجُود فِيمَا بين طَبقات المُجتمع(15). وحينما تَـغَيَّرَ ميزان الـقـوى فيما بَيْن طبقات المُجتمع، وحينما أصبح في صالح طبقة أخرى مُناقضة للطبقة العاملة، فإن «السّلطة السياسية» اِنْـفَلَتَت من بين يَدَيّ سُوفْيِيتَات البروليتاريا، وانـتـقلت إلى أيدي بِيروقراطية الحزب الحاكم، دون أن يكون هذا التحوّل مُعْلَنًا، أو مَلْحُوظًا، أو وَاعِيًّا.

وَسَاعَدَ هذا الانحراف السياسي السْطَالِينِي (stalinien)، على امتداد عُقُود، على تَطَوُّر«الحزب الشيوعي» إلى نَـقِـيـضِـه. لأن هذا الحزب الشيوعي السْطَالِينِي لم يَـعُد لَا ثوريًا، ولَا شيوعيًا، ولَا ابْرُولِيتَارِيًا، ولَا اشتراكيا، ولَا عَادِلًا، ولَا عَقْلَانِيًا. بل أصيب هذا الحزب الشيوعي السْطَالِينِي بِمرض عقلي، وغدا في حالة من “الاسْتِلَاب” (aliénation)، أو من الحُمْق السياسي. حيث تحوّلت مُعْظَم خِصَالِه الأصلية إلى عكسها.

وبعد فترة طويلة، أي في سنة 1991، اندلعت في الاتحاد السوفياتي ثورةٌ مُضَادّة، تَزَعَّمَهَا السِكِّيرُ بُورِيسْ يِلْتْسِينْ. وكان يِلْتْسِينً يُثِير الاستـغراب والضَّحِك من كثرة سَخَافَتِه. وكان يِلْتْسِنْ شَدِيدَ الانْبِهَار بِالتَشَبُّهِ بالبلدان الرأسمالية الغربية. وكان هدف يِلْتْسِين الأقصى هو فصل رُوسْيَا عن الجمهوريات غير الرُّوسِيَة، وتحويل رُوسْيَا إلى بلد رأسمالي يُشْبِه البلدان الغربية. وكل المسائل الأخرى لَا تهمّ بُورِيسْ يِلْتْسِينْ. واسْتَسْلَمَت بِسُهُولَة غَالِبِيَة أعضاء «الحزب الشيوعي» السْطَالِينِي (الذي كان أعضاءه يفوقون 5 ملايين شخص) لهذه الثورة المُضَادَّة. بل سَايَرَتها، أو نَاصَرَتها. لأن أولئك «الشيوعيين» المَزْعُومِين، تحوّلوا، ومُنذ زمان، إلى نَـقِيضِهِم. حيث لم يَعُد أعضاء الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي لَا مُنَاضِلِين، ولَا اشتراكيين، ولَا شيوعيين، ولَا ثوريين. ونَسْتَحْضِرُ هُنَا عبارة ماركس الشهيرة: « ليس وَعْـي الناس هو الذي يُحَدِّدُ وُجودهم الاجتماعي، بل وُجودهم الاجتماعي هو الذي يُحدِّد وَعْيَهُمْ». بِمَعْنَى أن الواقع المُجتمعي المُتَـفَسِّخ، والمُسْتَلَب، والمُتَخَلِّف، في الاتحاد السوفياتي، هو الذي حَدَّد الوَعْيَ المُسْتَلَب، والسُّلُوكَ المُتَـفَسِّخ، لأعضاء الحزب الشيوعي أثناء انطلاق الثورة المُضَادَّة. حيث أن الحزب الأصلي، أي الحزب اللِّنِينِي البَلْشَفِي، كان قد مُسِـخَ، أو مَاتَ، منذ أن سَيْطَرَ اسْطَالِين وأنصاره على هذه الحزب.

وبعد انهيار الاتحاد السُّوفياتي، تحَوّل الكثيرون من مسؤولي الحزب، ومن مسؤولي الدولة، إلى انتهازيّين مُفْتَرِسِين (بَدَلًا من أن يكونوا سَبَّاقِين إلى الدفاع عن مصالح الشعب). وقرَّرُوا إرجاع الرأسمالية. وَانْـقَضُّوا على ثروات وممتلكات الشعب. وحوّلوا معظمها إلى مُمتلكات شخصية خُصوصية، وَبِطُرق مِلْؤُهَا الاحتيال والغِشّ. ومَعلوم أنه في مُجتمع «الاتحاد السُّوفْيَاتي» السَّابق، كانت مُجمل الثروات مِلْكِيَة اشتراكية، أو ملكية لِعُمُومِ الشعب. لكن بمجرّد أَنْ اِنْهَارَ نظام الاتحاد السوفياتي، ظهر فجأةً أغنياء، ورأسماليون كِبَار، دون أن يَعلم أحد من أين حَصَلُوا على مِلْكِيَّات هذه الثروات الشخصية الهائلة. وتكاثرت مَافْيَات عنيفة ومُتَنَوِّعَة. وعاد من جديد معظم كَادِحِي الشعب إلى نُـقطة الصِّفْر، أي إلى الرأسمالية المُفْتَرِسَة، بما فيها من استغلال، وغِشّ، وفَقر، ومُعَانَاة، وفساد، واستبداد.

وبعد انْدِلَاع الثورة الاشتراكية (في سنة 1917)، كان الأفضل، ليس هو العمل بِـ «دكتاتورية البروليتاريا»، وإنما هو العمل بِـ «حُكم لِجان الكادحين (أو السُّوفْيِيتَات، في إطار جمهورية اشتراكية، أو في إطار «فِيديرَالِيَة الجمهوريات السُّوفْيِيتِيَة». بِمَعْنَى أن جوهر السلطات السياسية ينبغي أن يَنْبُعَ من «لِجَان الكَادِحِين (أو السُّوفْيِيتَات)»، وليس من الحزب الشيوعي الحاكم.

وبعد انْدِلَاع الثورة الاشتراكية (في سنة 1917)، كان الأفضل، ليس هو العمل بِـأطروحة «الحزب الوحيد»، وإنَّمَا هو إِمَّا العمل بتعدّد الأحزاب، وإمَّا العمل بِتَعَدُّد التِّيَارَات السياسية داخل «الحزب الشيوعي الوحيد». وفي حالة العمل بِالتِّيَارَات، يلزم ضَمان حُرِّيَات الرأي، والخلاف، والنـقد. بالإضافة إلى مَا يَسْتَوْجِبُه العمل بِالتِّيَارَات من مُرُونَة، وعَقْلَنَة، في التعامل فيما بين التِيَارَات السياسية الثورية. وينبغي أيضًا الحِرْص الشديد على أن تكون هذه التِيَارَات السياسية مَدَارِسَ فكرية، مُتَطَوِّرَة في أفكارها، ومُتَغَيِّرَة في أعضائها. وَلَا يُعْقَل، وَلَا يُـقْـبَل،أن تكون التِيَارَات السياسية،مَجموعات ثابتة من الأشخاص، أو قَبَائِلسياسية عَصَبِيَّة،وَدَائِمَة. وَلَا يُـقْبَل من هذه التِيَارَات السياسيةأن تَتَحَرَّكُ كَحِزْب سِرِّي دَاخِل الحِزْب العَام. وَلَا يَجُوز لهذه التِيَارَات السياسية أن تتحرّك بمنهج عَصَبِيّ، أو غير عَقْلَانِي. وإذا كانت هذه التِيَارَات السياسية حَقِيقَةً مَدَارس فِكرية صَادِقَة، وليس جماعات عَصَبِيَّة، فإن أعضاء هذه التِيَّارَات سَتُغَيِّرُ اِنْتِمَاءَها لهذه التِيَارات حسب تَغَيُّر قَنَاعَاتِهَا الفكرية. والتِيَارَات السياسية الحقيقية، تَـقْبَلُ بِمُرُونَة، وبِسُهُولة، تَطْوِير مُعتـقداتها، أو تـقْوِيم أُطْرُوحَاتِهَا، أو إحداث تـغييرات في أعضائها، وذلك حسب تطور الأفكار، أو القناعات، أو الأوضاع، أو المُعطيات.

وبعد موت اسْطَالِين، وأثناء المؤتمر 22 للحزب الشيوعي السُّوفياتي، قرّر الحزب وضع حدّ نهائي لهذا الانحراف، فَأَلْغَى «دِكتاتورية البروليتاريا»(16).

وهكذا اتَّضَحَ فيما بعد أنه، بَدَلًا من أن تَحْمِيَ أطروحةُ «ديكتاتورية البروليتاريا» الكَادِحِينَ من حُدُوث ثورة مُضَادّة، ومن عَوْدَة الرأسمالية، تَحَوَّلَت هذه الأطروحة إلى نَـقِيضِهَا. حيث سَاهَمَت، في آخر المطاف، في تَسْرِيع إِنَضَاج ظروف انهيار الاتحاد السوفياتي.

ومن بين دروس تجربة الاتحاد السوفياتي، أن مُعظم أعضاء الحزب الشيوعي الذي تَرَكَه لِينِين، لم يكونوا يَسْتَوْعِبُون أحد قوانين “المادية الجدلية”، وهو: «إمكانية تَحَوُّل الشيء إلى نَـقِيضِه، حينما تتوفّر بعض الشروط الخاصة». فكانت النتيجة هي سلسلة من المَآسِـي، ثم انهيارَ الاتحادُ السوفياتيُّ، ثم اِنْبِِعَاث الرأسمالية من جديد. مع انـتشار مَوْجَة عَالَمِيًّة، وَقَـوِيَّة، مِن الشَـكِّ، واليَأْس، حول الاشتراكية. وكل شعب، أو حِزب، أو جماعة، أو شخص، يَرتـكب أخطاءً سياسية، فإنه سَيُؤَدِّي حَتْمًا ثَمَنِ أخطاءه، ولَنْ يَـقدر أبدًا على الإِفْلَات من أداء ثمن هذه الأخطاء.

والسِّمَة التي يَنبغي أن تُمَيِّزَ الثوريين الشيوعيين، هي كَوْنُهم يرفضون المناهج السُّلْطَوِية، ويفضِّلون المناهج الثورية، التي تُشْرِكُ الجماهير في التـفكير القَبْلِي، وفي الإِنْجَاز الجماعي. ولا يعتمد الثوريون على الإِكْرَاه في السياسة. ولا يستعملون التَحَايُل في مجال الإِقْنَاع. وإنما يُفَضِّلُون نهج الصِّدْق، والصَّرَاحة، والحقيقة. ويلتزمون دَائمًا بِمُمَارَسَة نَهْج الثورة الثـقافية الجماهيرية السِّلْمِيَة المُتواصلة.وهي التي تعتمد، هي نـفسها، على التَعْبِئَةالسِّلْمِيَة لِلْجَمَاهِير الكادحة، وعلى إطلاقالعِنَان لِمَلَكَات الحِوَار، والنـقد، والتـقْوِيم، والتَـثْـقِيف، والتربية المُتَبَادَلَة، والإنتاج، والإبداع، وَالتَـكَامُل، والتضامن.

ونجد في مُجمل الفكر الاشتراكي، أو الماركسي، حِرْصًا شديدا على الرَّبْط بين الثورة والحُرِّيَات، وبين الاشتراكية والديمقراطية، وبين ”الديمقراطية السياسية“، و”الديمقراطية الاقتصادية“. فَلَا تَـقْـبَـل الماركسيةُ الفَصْلَ بين الاشتراكية، والحرّيات السياسية، والعَدَالَة المُجتمعية، والتوزيع العادل للثـقافة، وللثروات المُنْتَجَة. وهو ما تعجز الرأسمالية على تحقيقه. بل هو من دَوَاعِي التخلّص من الرأسمالية.

(1) بشيء من التَبْسِيط، أو التلخيص، “البْرُولِيتَارِيَا” هي الطبقة العاملة. وتتكوّن من الأشخاص الذين لَا يملكُون رَأْسَمَال، ولَا وَسَائِلَ إنتاج، فَيَضْطَرُّون إلى بيع “قُوَّةِ عَمَلِهِم” مُقَابِلَ أُجْرَة دَوْرِيَة، بِهَدَف تَلْبِيَة حَاجِيَّاتِهم المادية. وإذا دخلنا في التـفاصيل، يمكن أن تتعقَّد الأمور أكثر.

(2) لينين،” الدولة و الثورة “، ص 35-36 ،الطبعة العربية، دار التقدّم، موسكو.

(3) K.Marx to Weydemeyer، March 5، 1852، Internet: https://www.marxists.org/english/marx/works/1852/03/km18520305.htm. Cité par : Stefan Engel, La crise de l’idéologie bourgeoise et de l’anticommunisme, 1ière partie, Verlag Neuer Weg, Septembre 2021, p. 66. http://www.neuerweg.de

(4) في كتابه «طبقات المُجتمع»، لا يستعمل رحمان النوضة مُصْطَلَح «طبقة البرجوازية»، وإنما يستعمل مُصْطَلَح «طبقة المُسْتَغِلِّين». وقسّم «المُسْتَغِلِّين» إلى «طبقة المُسْتَغِلِّين الصِّغار»، و«طبقة المُسْتَغِلِّين المتوسّطين»، و«طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار». وحدّد أيضًا «طبقة المُسْتَغَلِّين»، و«طبقة الذين لَا يَسْتَغِلُّون ولَا يُسْتَغَلُّون». ويمكن تنزيل هذا الكتاب من مدوّنة الكاتب: https://livreschauds.wordpress.com/2012/05/12/كتاب طبقات المُجتمع، رحمان النوضة/.

(5) أنظر كتاب رَحْمَان النُوضَة، “طبقات المجتمع”. ويمكن تنزيله بالمجان من مُدَوَّنَتِه.

(6) لِينِين، الأعمال الكاملة، المجلد 30، موسكو، الصفحة 111. ذكرها شارل بيطالهايم في “تاريخ الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي”، الطبعة الفرنسية، المرحلة الأولى 1917-1923، سُويْ مَاسْبِيرو، 1974، الصفحة 115.

(7) شارل بيطلهايم، المصدر السّابق، الصفحة 116.

(8) Michael Lowy, La théorie marxiste du Parti, p.28, point 53, publié en 2009, Mis en ligne sur le site :Cairn.info le 04/11/2009, Source

https://doi.org/10.3917/amx.046.0076

(9) Joseph Staline utilise «l’argument de l’autorité», au lieu d’utiliser «l’autorité de l’argument».

(10) سبق لي أن أَوْضَحْتُ هذه الفكرة الأساسية، أو القاعدة المُجتمعية (loi sociétale)، في كُتُبي التالية (باللغة الفرنسية): “المُجْتَمَعِي” [Le Sociétal]، و”السياسي” [Le Politique]، و”الأخلاق السياسية” [L’Éthique politique]). وفي كتابي “نـقد الشعب” (باللغة العربية)، وكذلك في مقالي “العَلَاقَة بين السِيَاسَة والأَخْلَاق (من خِلَال نـقْد الأستاذ محمد سَبِيلَا)”. ويُمكن تنزيلها كلّها من مُدَوَّنَة الكاتب.

(11) La révolution culturelle pacifique et ininterrompue des masses laborieuses.

(12) https://fr.wikipedia.org/wiki/Grandes_Purges

(13) سمير الخطيب، «جدلية الثورة والديمقراطية والاشتراكية»، مقال موجود على موقع “الحوار المُتَمَدِّن”، الأعداد: 5588، و 5598.

(14) أنظر كِتَابَي أَلِكْسَنْدَرْ سُولْجِينِتْسِين: Alexandre Soljenitsyne: (L’archipel du Goulag)، (Le pavillon des cancéreux).

(15) Charles Bettelheim, Les luttes de classes en URSS, 1ière période 1917-1923, Édition Seuil-Maspéro, Paris, p. 76

(16) سمير الخطيب، في مقاله: «جدلية الثورة، والديمقراطية والاشتراكية»، على موقع “الحوار المُتَمَدِّن”، العدد 5588، و 6698.

5) إِنْ اِنْــهَــارَ الاتــحــاد السُّوفْــيَــاتِــي، لــمــاذا تَــعَــاظَــمَــت الــصِّــيــن؟

يُشِيرُ أعداء الشيوعية، وخصوم الاشتراكية، دَائِمًا، بِأُصْبُعِهِم، إلي شيء واحد فقط، هو «انهيار الاتحاد السُّوفياتي»، لكي يُوحُوا إلينا أن: «الماركسية خاطئة»، وأن «الاشتراكية هي مُجَرَّد وَهْم». ونَرُدُّ عليهم: نعم، اِنْهَارَ الاتحاد السوفياتي. ولكن لماذا لا تنظرون أيضًا إلى جارته التي هي الصِّين؟ فالحزب الشيوعي الصيني هو الذي حرّر الصين من سيطرة الإمبريالية، وَوَحَّدَ تُرَابَهَا الوطني، وأخرجها من تخلّف قُرُون وُسْطَوِي (moyenâgeux)، وقاد عملية بناء ”اشتراكية“ ذات خُصُوصية صِينية. وحوّل الحزبُ الشيوعي الصِّينَ، خلال قرابة 70 سنة فقط، من بلد مُتَخَلِّف،وشبه إقطاعي(quasi féodal)، إلى أكبر قُوَّة اقتصادية في العالم. بينما لَوْ سَلَكَت الصّينُ (منذ استـقلالها في سنة 1949) طريقَ الرأسمالية، فإن مصيرها الأكثر احتمالًا سيكون اليوم مثل مصير بلدان أمريكا اللاتينية، أو إفريقيا، أو بلدان العالم الناطق بالعربية. أي تَجْزِئَة البلاد، وبَلْقَنَـتِه، والتخبّط في تَخلف مُجتمعي دائم، والخُضُوع لِتَبَعِيَة قَاهِرَة للإمبرياليات العالمية. وهو ما لا يعتبره خُصُوم الاشتراكية.

ويَزْعُمُ آخرون أن «مَا نجح في الصِّين هو الرأسمالية»، وأن «الصين هي بلد رأسمالي مَحْضٌ». لكن هؤلاء المُعلّقين نَسَوْا أن الصِّين، خلال عهد الرئيس مَاوُو زِي دُونْغْ (أي بين سنتي 1943 و 1976)، سَلَكَت خَطَّا سياسيًا ثوريا “شِيُوعِيًا”. وعلى امتداد عهد مَاوُو، لم تكن للصّين علاقات اقتصادية خارجية سوى مع الأنظمة “الشيوعية” المُجاورة (أي الاتحاد السوفياتي، وكوريا الشمالية، وفِيتْنَام). وكان مَاوُو يُؤَكِّد (منذ سنة 1940، تاريخ صدور وثيقته المُعنونة بِـ «الديموقراطية الجديدة») أن التخلّف الاقتصادي للصّين يَـفْرِضُ استمرار وُجُود مُوَازٍ (parallèle) لِأنشطة ومؤسّـسات اقتصادية ذَات طبيعة رأسمالية مُتَحَكَّم فِيها. لكن مَاوُو (وكذلك الحزب) لم يُعَمِّقَا آنذاك هذه الأطروحة بما فيه الكفاية. وَعَادَ مَاوُو إلى فرض تَجْمِيع وتَأْمِيم الأراضي الفلاحية (عبر «حركة القَفْزة الكُبرى»، بين سنتي 1958 و 1961). لكن سياسة تجميع الأراضي الفلاحية في الصِّين فشلت آنذاك (مثلما فشلت مثيلتها في الاتحاد السوفياتي في سنة 1937).

وإِجْمَالًا، خلال عهد مَاوُو، نجح نِسْبِيًّا النظام السياسي الشيوعي في تحرير الصين من هيمنة الإمبريالية (اليابانية، ثم الأمريكية)، وفي إخراج الشعب الصيني من الجزء الأكبر من التخلّف المُجتمعي البِنْيَوِي الذي كان غارقًا فيه، وحَسَّن الأوضاع المعيشية لِقرابة 900 مليون نسمة، وهَيَّأ جزءًا مُعْتَبَرًا من الشُروط الضرورية لإقلاع التَنْمِيَة الاقتصادية. وهذا التـقييم العام لا ينـفي حُدُوث بعض الأخطاء، أو المُبالغات، أو الانحرافات، أو الصراعات، أو الضحايا.

وقد أَطْلَـقَ الحزب الشيوعي الصِّيني عِدّة حركات جماهيرية«ثـقَافية»،أو «تَصْحِيحِيَة»، مثل «حركة مِئَة زَهْرَة» في سنة 1956، و«حركة القَـفْزَة الكُبْرَى» في سنة 1958، و«حركة التَرْبِيَة الاشتراكية» في سنة 1962، و«حركة الثورة الثـقافية» في سنة 1966. وكانت هذه الحركات مغامرات، أو تجارب مُجتمعية جَديدة، وفريدة من نوعها. وتَخَلَّـلَت هذه «الحركات» صراعات سياسية حادَّة. واستغلّها البعض لتصفية حسابات شخصية ذاتية، عبر اِتِّهَام خُصُومِهِم بِحَمْلِ أفكار يَمِينِيَة. وتَسَبَّبَت هذه «الحركات» في خَلْخَلَة الأنشطة الاقتصادية. وكادت أن تتحوّل أحيانًا إلى “حرب أهلية”، لَوْلَا تحكّم الحزب الشيوعي في تطوّرها العام. وحدثت أيضًا بعض المُبَالَغَات خلال هذه «الحركات». وتعرّض بعض ضحايا هذه «الحركات» (وكذلك أفراد عائلاتهم) لِمُعَامَلَات قَاسِيَة، أو مُبالغ فيها، أو جَائِرَة، أو غير مُبرّرة. واسْتُعْمِلَت خلالها بعض الأساليب السْتَالِينِييَة (stalinien) العَنيفة، مثل الضرب، والحبس، والعَزْل في “مُعَسْكَرَات التـقويم” النائية، إلى آخره. لكن الإعدامات الجائرة في الصِّين كانت أقل بكثير مِمَّا حَدث خلال عهد جُوزِيف اسْطَالِين في الاتحاد السوفياتي.

وَبعدما رَكَّزت الصين على تشييد البنيات التَّحْتِيَة الضرورية للصناعات الثـقيلة، تَكَرَّرَ في الصِّين نـقْصٌ في البضائع البسيطة أو العادية المَعروضة في الأسواق(1). وكان هذا النـقْصُ يُذَكِّر بالنـقص الذي شُوهِدَ في الاتحاد السوفياتي، وذلك لأسباب مُمَاثِلة (خلال سنة 1932، ثم سنة 1946). وأحسّ بعض قادة الحزب الشيوعي الصيني أن الدولة الصينية الفَتِيَة لَا تـقدر على توفير جميع السِّلَع، أو الحاجيات المادية، بالكَمِّيَة الكافية، وبالسُّرْعَة المَطلوبة، التي يحتاج إليها هذا الشعب الضّخم (والذي تحوّل من 600 مليون شخص في سنة 1949 إلى 900 مليون نسمة في سنة 1976، رغم سياسة «الاِبْنِ الوَحِيد» المُطَبَّقة في المُدُن الكبيرة). وأحَسَّ قادة الحزب أن وَتِيرَة النمو الاقتصادي بطيئة نسبيا، ولا تستجيب للحاجيات المُتَسَارِِعَة. وفكّر بعض أطر الحزب الشيوعي الصِّيني في الاستعانة بالسَّماح، ولو جزئيا، ومؤقَّتًا، لِلْمُبَادرات الاقتصادية الفردية(الرأسمالية) المُدِرَّة لِلرِّبح. وَدَارَت آنذاك صِراعات سياسية مُتعدّدة حول هذا الموضوع داخل الحزب الشيوعي الصيني. وكانت النـقاشات مُعَقَّدة، ومُحَيِّرَة. هل يحقّ، خلال مرحلة الاشتراكية الانتـقالية، تكميل الاقتصاد الاشتراكي باقتصاد رأسمالي مُتَحَكَّم فيه؟ هل نـقِـفُ عند حُدود قراءة حرفية للنظرية الماركسية (بما فيها نصوص افْلَادِيمِير لِينِين)، أم نَتَكَيَّف بشكل ثوري مع واقع لم يَعِشْهُ لَا ماركس، ولَا لِينِين؟ وهل السّماح بأنشطة رأسمالية، ولو جزئية، سَيُؤَدّي حتمًا إلى القضاء على مُجمل “الاقتصاد الاشتراكي”، وعلى النظام السياسي “الاشتراكي”؟ وما هو الاحتياج الأكثر استعجالًا؟ هل هو صِيَانَة النـقَاوَة المبدئية للاشتراكية، أم هو تَسْرِيع عملية إخراج الشعب من الدائرة المُفَرَغَة للتخلّف؟

وَنُسِبَ إلى ماوو تسي تونغ أنه كتب عن “رأسمالية الدولة“: «إن الاقتصاد الرأسمالي الموجود حاليا في الصّين هو اقتصاد رأسمالي خاضع في أغلبه إلى سيطرة الحكومة الشعبية، ويرتبط بالاقتصاد الاشتراكي المملوك للدولة بأشكال عديدة، ومراقب من قِبَل العمّال. إنه ليس اقتصاد رأسمالي عادي، ولكنه نوع خاص من الاقتصاد الرأسمالي، يُعرف باقتصاد رأسمالية الدولة من نوع جديد. إنه وُجد ليس بهدف تحقيق أرباح للرأسماليين، ولكن لتلبية حاجات الشعب والدولة. صحيح أن حصة من الأرباح المتأتية من مجهود العمال تذهب إلى الرأسماليين، لكنها جزء صغير فحسب، حوالي ربع واحد، من إجمالي الربح. أمّا الثلاثة أرباع الأخرى فترجع لتعود إلى العمال (في شكل مورد للرفاهية)، وإلى الدولة (في شكل ضريبة دخل)، وإلى السعة الانتاجية المتوسّعة (جزء صغير منها يُولد أرباح للرأسماليين)»(2).

وبعد موت مَاوُو في سنة 1976، قال الحزب الشيوعي الصيني، إن احتياج الصين إلى تسريع وثيرة نُمُوِّها الاقتصادي، في إطار عَوْلَمَة رأسمالية مُعَادِيَة، وفي إطار مُحاصرة اقتصادية من طرف الإمبريالية، هو الذي دَفَعَه (مؤقّتًا) إلى اِتِّبَاعِ طريق «بَلَد واحد، بِنِظَامَين» اقتصاديّين مُخْتَلِفَيْن (أي المَزْج بين الاشتراكية والرأسمالية، تحت قيادة الحزب الشيوعي). وهي الأطروحة التي دافع عنها تِيَار الرئيس دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ (ولو أن هذه الأطروحة التوفيقية لا تُوجد في النظرية الماركسية الكلاسيكية).

ويجب التذكير أنه، خلال قرابة سنوات 1930، كانت آنذاك الصّين تشبه المَغرب، أو الجَزائر، أو العِراق، أو مِصر، أو إِنْدُونِيسْيَا، من زاوية التخلّف الاقتصادي، والثـقافي، والمُجتمعي. وبعد وفاة الرَّئِيس الصّيني مَاوُو زِي دُونْغْ (في سنة 1976)، تَسَارَعَ صُعود التِيَار السياسي لِـ ”دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْهْ”. وسَبَق لِـ ”دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْهْ” كشخص، وكذلك كَتِيَّار سياسي، أن أُدِينَ عِدَّة مَرّأت إِبَّانَ “الثورة الثـقافية” بِالدِّفَاع عن أطروحات “يَمِينِيَة”، أو “بُورْجْوَازِيَة”، أو مُنْحَرِفَة عن الاشتراكية. ثمّ سيطر هذا التِيَار على قيادة الحزب والجيش الأحمر. وأصبح بِسرعة ”دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْهْ” خَلَفًا للرّئِيس مَاوُو. وكان تِيَار ”دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْهْ” يُكَرِّرُ مَقولته المَشهورة: «لَا يَهم أن يكون القِطُّ أسودًا أو أبيضًا، وإنما المُهم هو أن يَصطاد الفِئران»! وهي أطروحة غامضة إلى حَدِّ المُغَالَطَة. ومن زاوية المَنْطِق، تَـنْـبَـنِـي هذه المقولة على مُقارنة خاطئة. إذ تـقَارِنُ بين «القِطِّ» و«اقتصاد البلاد». ويمكن أن يكون المعنى المُوحَى به من خلال هذه العبارة هو: لا يهم أن يكون المواطن اشتراكيا أو رأسماليا، ولكن المهم هو أن ينتج الرِّبْحَ، أو “فَائِضَ القِيمَة” (plus-value). فنتساءل: هل هذه المَقُولَة سَليمة؟ هل كانت الغاية المُستعجلة لدى الحزب الشيوعي الصّيني هي أساسًا: الخروج بِسُرعة من التخلّف الاقتصادي؟ هل يشكل هذا التحوّل انحرافًا عن الماركسية، أو خروجا عن الاشتراكية، أو رُجُوعًا إلى المَنطق الرأسمالي؟ وإذا فَضَّلْنَا إنتاجَ المالِ والرأسمالِ، ومهما كانت الوسائل والنتائج، فهل هذا الاختيار يعني أننا فضّلنا التَخَلِّيَ عن هَمِّنَا الأصلي، والذي هو تحرّر الشعب من الاستغلال الرأسمالي والطَّبَـقِي؟ هل يعني أننا فضّلنا العودة إلى الرأسمالية المُتَوَحِّشَة، بكل ما فيها من استغلال واسْتِلَاب؟

وفي مثال الصِّين، وإلى حدود نهاية سنوات 1970، كانت المُقاولات العُمُومِيَّة تُمَثِّل قرابة 99 % من مجموع مقاولات البلاد. ولاحظت قيادة الحزب الشيوعي (في سنوات 1970) الخسائرَ الضخمة والمتكرّرة التي تتسبّب فيها بعض المقاولات العُمومية. فَأَقْدَمَت هذه القيادة، خلال عُقُود مُتَوَالية، على إنجاز عدّة إصلاحات لِتحسين إنتاجية المُقاولات العُمومية. ومن بعد، دخلت الصِّين في سياسة «الانـفتاج على السوق العالمية» لِجَلْب الاِسْتِثْمَارَات من الدول الرأسمالية المتـقدّمة. واتَّبَعَت قيادة الحزب «الإصلاح عبر مَسَارَيْن مُزدوجين»، المعروف أيضًا باسم «الإصلاح بدون خَاسِرِين». وَوَاجَهَ هذا الإصلاح تَحَدِّيًا مُزدوجًا: تَوفير حوافز اقتصادية لِرَفْع الإنتاجية، وفي نـفس الوقت، توفير «شَبكة أَمَان اجتماعي» كافية لِتـقْلِيص الخوف من التغيير.

وتـعمل الصين بِمُخَطَّطَات استراتيجية كُبْرَى، في مجالات الفلاحة، والصناعة، والتعليم، والبحث العلمي، والبنيات التحتية، والتِكْنُولُوجِيَات، إلى آخره. وتَحْرُصُ الصِّين على غَلَبَة القطاعات الاقتصادية العُمُومِيَة على الأنشطة الاقتصادية الخُصُوصية. وتنـفتح الصين بشكل جزئي وتدريجي على الخارج، على الخُصوص في «المناطق الاقتصادية الخاصة»، والتي تُغَطِّي اليوم تـقريبا الساحل الصِّينِي بأكمله. وتمنح هذه «المناطق الاقتصادية الساحلية الخاصة» شروطًا مُشَجِّعَة للشركات الأجنبية (مثل تخفيض الرُّسُوم الجُمركية، وحُرِّيَة الاِسْتِعَادة المَجَّانِيَة للاستثمارات وللأرباح، وإعفاء الشركات الأجنبية من الضرائب خلال السنوات الأولى لِعَملها في الصين، ثم إخضاعها لِضرائب مُخَفَّضَة جدًا فيما بعد، ومنح المُدِيرِين التِقْنِيِّين الأجانب الذي يأتون للعمل داخل الصين صفة “خارج عن التُرَاب الوطني”). وفي قرابة سنة 2000، أصبحت الصِّين هي «مَعْمَل العالم» (fabrique du monde). وفي عام 2006، أصبحت تعمل فوق التراب الوطني الصِّيني أكثر من 400 شركة من بين الشركات العالمية المُدْرَجَة في قائمة “الشركات الـ 500 الأكبر في العالم” (Fortune 500)(3). كما أن عددا كبيرا من الشركات الصينية غدت تتوفّر على أنشطة اقتصادية خارج الصّين.

وأدّى النمو السَّريع للقطاع الخاص في الصِّين إلى تـقليص حِصَّة المقاولات العُمومية مِن حَوالي 99 % من مجموع مقاولات الصِّين، في نهاية سنوات 1970، إلى 25 % في عام 2013(4). فَمَا هو مآل هذه التـغييرات؟ يبقى النـقاش مفتوحًا. وكل الاحتمالات واردة (بما فيها غَلَبَة التوجّه الرأسمالي على التوجّه الاشتراكي، أو العَكْس). ويمكن للصّراعات السياسية الجارية في قيادة الحزب الشيوعي الصيني أن تَحْسِمَ التطوّر إما في اتجاه التَبَنِّي التَام لِلرأسمالية، أو التَمَسُّك بالاشتراكية.

ومنذ وصول دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ إلى قيادة الحزب الشيوعي في سنة 1976، دَخَلت الصِّين في تَشْيِيدِ (مَا سَمَّاه الصينيون) «اقتصاد اشتراكي لِلسُّوق»، ثم «رأسمالية صينية بخصائص اشتراكية». واستمرّت هذه السياسة حتى بعد تَنَحِّي دِينْغْ من السُّلطة في سنة 1992. وكان دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ مِثل بُورِيسْ يِيلْتْسِينْ (في “الاتحاد السُوفياتي” السَّابق) مُعْجَبًا إلى حَدٍّ كبير بِتَـقْلِيد البلدان الغربية المُتـقدّمة. وعلى خلاف بعض الاِدِّعَاءَات، لَا يتوفّر تِيَّار دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ على نظرية سياسية جِدِّيَة، أو واضحة، أو مضبوطة. والاعتقاد الأساسي في فكر تِيَّار دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ هو أنه «إذا سمحنا للمواطنين بِأَنْ يَغْتَنُوا بِالطُرُق التي يُفَضِّلُون، أو التي يقدرون على إنجازها، فإن تنمية الاقتصاد الوطني سَتَتَحَـقَّقُ بسرعة». وكان تِيَّار دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ يعتقد أنه يكفي استرجاع «المِلْكِيَة الخاصّة»، و«حرّية المُبادرة»، لِكَي تتحقّق مُعجزة تَنمية الاقتصاد الوطني. وإذا كانت هذه السياسية قد نجحت ظَاهِرِيًّا في الصين بين سنوات 1978 و 2016، فَلِأَنَّهَا اِسْتَـفَادَت مِن وُجود بِنْيَة تحتية هائلة ومُساعدة. ومِن الطبيعي أن تراجع أي مُجتمع مِن تَوَجُّه اشتراكي إلى تَوَجُّه رأسمالي، يُوَفِّرُ فَوْرًا تَنمية اقتصادية هامّة، لكنها مؤقتة. ومِن المعروف أن مُجمل بلدان العالم الثالث يُطبّقون نفس الاعتقاد الذي دافع عنه دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ (تحت شعار «إِغْتَنُوا بِلَا حَرَج أيها المواطنون!») دون أن تَتَحَقَّقَ تنمية الاقتصاد الوطني بالقدر المُبْتَـغَى.

وقد تعرّض دستور جمهورية الصِّين الشعبية لِعِدَّة تغييرات (مثلا في سنوات 1954، و 1975، و 1978، و 1982، و 2004). وذلك في ارتباط بالتطوّرات الكَيْفِيَة التي حدثت في مجال الصراع الطبقي الجاري داخل مجتمع الصِّين. حيث تحوّل الحزب الشيوعي الصِّينِي «مِن حزب ثوري قائم على أساس الصراع الطبقي، إلى هيئة مَفتوحة، على أساس المساواة بين جميع المواطنين الصِّينِيِّين أمام القانون»(5). كما قرّر الحزب الشيوعي الصِّيني «تَـقْلِيص أهمية أُطروحة الصراع الطبقي، والاعتراف الرّسمي بِدَوْر القطاع الخاص، وبِحُقوق المِلكية الخاصة»(6). وهو ما يُشكّل رِدَّة واضحة نحو الرأسمالية. وقد أصبحت أكثر من 80٪ من أسهم بُرْصَات الصِّين تُوجد بين أيدي مُلَّاك صغار صينيين(7).

وَتَمْزِجُ الصِّين بين رأسمالية الدولة الوطنية، ورأسمالية خُصوصية. وشكّلت السُّوق الصينية، بِسُكَّانِها الذين يتجاوز عددهم 1،3 مِلْيَار نسمة في سنة 2000، طَعْمًا لا يُقَاوَم لَدَى مُجمل رَأْسَمَالِيِّي العالم. حيث تَجْذُب هذه السُّوق الكثيرينَ من المُستثمرين الرأسماليين، ومن جميع أنحاء العالم. واستهوت الصِّين كذلك مُستثمرين صِينِيِّين من جزيرة تَايْوَان (Taïwan) المجاورة (التي سبق لها أن استـفادت من دعم الإمبرياليات الغربية بين سنوات 1950 و 1970، لتشجيعها على الانـفصال عن الصِّين، والعَدَاء لَهَا). ولعب هؤلاء التَايْوَانِيُّون دورًا هَامًّا في تنشيط الاستثمارات في الصِّين. وغَدَى اقتصاد تَايْوَان لا يقدر على الاستغناء عن اقتصاد الصِّين (حيث تبلغ صَادِرَات تَايْوَان نحو الصين 23 % من إنتاجها الداخلي الخام)(8).

وكانت الصّين في البداية تُجبر الشركات الأجنبية التي تُرِيد العمل على أراضيها، والاِسْتـفَادَة من تَسْهِيلاتها المُغرية، تُجْبِرُها أولًا على تكوين شَركة مُشتركة مع رأسمال مَحَلِّي صينِي؛ وتُجبرها ثانيًّا على تحويل تكنولوجياتها إلى المَجَال العَامّ في حالة نـقل مصانعها إلى خارج الصّين(9). ثم تطوّرت هذه الشروط مع مرور الوقت. وبدأت الصين بصناعة السّلع البسيطة، ثم توسّعت إلى المنتوجات التي تحتاج إلى خبرات مُعمّـقة، أو إلى تِكْنُولُوجِيَّات مُتـقَدِّمَة. وبعد حدوث نمو اقتصادي مُعتبر في الصِّين (بعد سنة 2000)، لم تعد الصينُ تَـقبل على تُرَابِهَا سِوى الشركات الأجنبية التي تستعمل تكنولوجيات رَائِدَة على الصعيد العالمي. ولا تـفرض الصين على هذه الشركات الرَّائِدَة سوى شروطًا بسيطة (بالمقارنة مع نوعية الشروط التي كانت تـفرضها الصين خلال سنوات 1980 و 1990). لأن استـقواء اقتصاد الصِّين جعلها لَا تخاف من تواجد هذه الشركات على أراضيها.

ودخلت الصين (منذ سنوات 1980) في تجربة: «دولة واحدة، بِنِظَامَين» (أي المَزْج بين نظام اشتراكي، ونظام رأسمالي، داخل دولة واحدة، وتحت قيادة الحزب الشيوعي الصّيني). فَحَدَثَ نَوْعٌ من المُعجزة الاقتصادية في الصّين. حيث انتـقلت نسبة النُمُوّ السَنَوِي “للإنتاج الداخلي الخام” (PIB) من مُعَدَّل 6 % إلى مُعدّل 12 %. وذلك خلال قرابة خمسة وعشرين سنة مُتَوَالِيَة. وشَهد بعض الاقتصاديين أنه لم يَسبق للعالم أن رأى مثل هذا التطور الاقتصادي السّريع الفريد مِن نَوعه. وأصبحت الصّين منذ قرابة سنة 2010 هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم، من حَيث حَجم ”الإنتاج الداخلي الخام”(10).

وإلى حدود قرابة سنة 1990، كانت حِصَّة الصِّين في السوق العالمية في مجال تصدير السِّلَع المُصَنَّعَة (biens manufacturés) تبلغ أقلّ من 2 %. لكن في سنة 2009، أصبحت حِصَّة الصِّين (في مجال تصدير السّلع المُصنّعة) هي الأولى عالميا، حيث بلغت نسبة 16 % (مقابل 11 % لألمانيا، و8 % للولايات المتحدة الأمريكية، و 7 % لليابان)(11). وفي نـفس الوقت، أصبحت حِصَّة الصِّين في الاستيراد العالمي هي 12 % من الطَّلَب العالمي (مُقابل 16 % للولايات المتحدة الأمريكية، و 16 % للاتحاد الأوروبي)(12).

وفي سنة 2008، أنتجت الصِّين: 38 % من الإنتاج العالمي لِلصُّلْب (acier)، و 50 % من الإِسْمَنْت، وتستعمل 60 % من مَعْدِن الحَدِيد المنتوج في العالم، و 50 % من النُّحَاس، و 48 % من الأَلُومِنْيُوم، و45 ٍ % من النِيكَل (nickel). ولِلصِّين فائض في الإنتاج في عِدَّة مَيَادين مثل الصُّلب، والإسمنت، والزُّجَاج، والألومِنْيُوم، والنِيكَل والأَتْرِبَة النَّادِِرَة (terres rares)، إلى آخره. وتنتج الصين قُرابة 10 مليون سيارة في العام(13). وتُعْتَبَر الصين من البلدان الأكثر تـقدُّمًا في العالم في مجالات الاتصالات البَعيدة (télécoms)، والقِطار فائق السُّرعة (TGV)، وتـقنيات “فيزياء الكَمّ” (physique quantique). وتحتلّ الصِّين المرتبة الأولى عَالَمِيًّا في مجال تكوين المُهندسين. حيث تُكَوِّنُ الصِّين في كلّ عام قُرَابَة 1 مليون مُهندس (تَلِيهَا الهند بِـ 0،5 مليون مهندس، ثم كوريا الجنوبية)(14)، ولو أن نوعية أو جودة المهندسين قد تَختلف من بلد إلى آخر. وقد اندمجت الصين بقوة في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي. وقاومت الصّين بشكل جيّد مُخَلَّفَات الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في سنة 2008.

وبعد قرابة 40 سنة من الانـفتاح على السوق العالمية الرأسمالية، ظهرت في الصين أعراض مُشابهة للمشاكل الموجودة في البلدان الرأسمالية المتـقدّمة، مثل تَـفَشِّي الرَّشْوَة، والغِش، والفَسَاد، وتكاثر أعداد الأغنياء الكبار، مثل “المِيلْيَارْدِيرات” (milliardaires)، والتـفاوت الكبير في المَدَاخِيل (خاصّة بين المدن والقرى)، وتَلَوُّث البيئة، والفُقَاعَات العَقَارِيَة، وتَنَاقُص ضئيل في نسبة السُكَّان المؤهّلين للشغل (actifs)، وتناقص نسبة نمو الإنتاج الداخلي الخام (مِن قُرابة 12 % إلى نحو 7 %)، إلى آخره. وتَتَزَايد مظاهر الصراع الطبقي، حيث أن الأغنياء الجدد يَتَقَوَّوْنَ أكثر فأ:ثر، ويُقَاومُون كل تغيير يُحُدُّ من فرص الزِيَادَة في اغتنائهم، ويطالبون بِتعميق الإصلاحات الرأسمالية. وبعض أعضاء الحزب الشيوعي (في قمّته وفي قواعده) هم أنفسهم من بين هؤلاء الأغنياء الجُدد. وفي سنوات 2000، نُشرت عِدَّة شهادات نابعة من مصادر مختلفة (بما فيها بعض المواطنين الصِّينِيِّين) تتحدّث عن انتشار الرّشوة، والفساد، والزَّبُونِيَة، سواء في مؤسّـسات الدولة الصينية، أم في الحزب الشيوعي الصيني(15). وهذه الأمراض المُجتمعية مُرتبطة بالرأسمالية، ولَنْ يقدر الحزب الشيوعي الصِّينِي على الحَدِّ منها، أو على التخلّص منها، دون التخلّص من الرأسمالية.

فهل ابتعدت الصين عن الاشتراكية؟ هل نجحت قيادة الحزب الشيوعي فيما هو مُستعجل، أي إخراج الصين من التخلّف الاقتصادي، وتَرْسِيخها في التنمية الاقتصادية؟ يُمكن لأيّ ملاحظ ماركسي أن يُوافق، أو أن يُعارض، هذا الاختيار الذي اِتَّبَعَتْهُ الصّين. لكن الحزب الشيوعي الصيني يقول إنه يَحْرُصُ على تَلَافِيَ بعض الأخطاء القاتلة التي سبق أن ارتكبها شَقِيقُهَا الاتحاد السوفياتي. ألم يكن اِتِّبَاعُ الصِّين لِسياسة المَزْج بين ”اقتصاد اشتراكي“ و”اقتصاد رأسمالي“ أَحْسَنَ من خطر تعرّض الصِّين لانهيار مُشابه لِمَا حَصَل في الاتحاد السُّوفياتي؟ ولماذا لَا تُحاول الصّين مُقاومة الإمبرياليات الغربية، أو حتى هَزْمها، عبر استعمال أسلحة الإمبريالية المُعتادة، المُتَجَلِّيَة في أنشطتها الاقتصادية؟

وِقال مثلًا أستاذ الاقتصاد رِيمِي هِريرَا (Rémy Herrera) عن الصِّين إنه «تُوجَدُ بالتَّأْكِيد عناصر رَأْسْمَالِيَة في الصِّين، لكن هذه البلاد ليست رأسمالية مِئَة في المِئَة. حيث مَا زالت تُوجد في الصِّين المِلْكِيَة العُمومية للأرض، والخدمات الاجتماعية، والتخطيط المركزي الاشتراكي». وعلى خلاف كلام هِيرِيرَا، تُشير التدابير المتخذة في الصّين في نهاية عام 2014 إلى تسريع الإصلاحات في اتجاه تسهيل الحصول على حقوق ملكية الأراضي الزراعية، وهي من بين المصادر المُزمنة للرّشوة والفساد(16). وَوَصَفَ هِرِيرَا الصِّينَ بكونها «رأسمالية الدولة في طَوْر الانتـقال إلى الاشتراكية»(17). وهو رأي متـفائل جدًّا.

ونذكّر أن الظاهرة المعروضة سابقًا، التي وَقَعَت في الصِّين، حدثت مَثِيلَتُهَا في الاتحاد السوفياتي، دون أن تَتَكَلَّلَ بالنجاح. فَمنذ قرابة سنوات 1980، بدأ بعض أطر الحزب الشيوعي السوفياتي يُحِسُّون أن الاتحاد السُّوفياتي دخل في حالة من الهُزَال، أو الانهيار التَدْرِيجِي، وأن اقتصادات بلدان مُنَافِسَة مثل اليابان، وألمانيا، ستتجاوز في الأمَد القريب اقتصاد الاتحاد السوفياتي. وحاول مِيخَائِيل غُورْبَاتْشُوف إطلاق “سياسة اقتصادية جديدة” (Nouvelle Économie Politique, NEP)، تُذَكِّرُ بسياسة دِينْغْ اهْسْيَاوُو بِينْغْ في الصِّين، لكن أجهزة الحزب الشيوعي السُّوفياتي أَفَشَلَتْهَا بِسرعة.

تَـكْمُن المشكلة الرئيسية في الصين، خلال سنوات 2020، في كون التوازن غير المستقر بين «الاقتصاد الاشتراكي» و«الاقتصاد الرأسمالي» يُحْتَمَلُ أن يَميل إلى صالح الرَأْسَمَالِيَة، وذلك حسب النوعية السياسية لِلْفِرَق المُتعاقبة في السلطة السياسية، أو على رأس الحزب الشيوعي الصيني. وإذا تَأَكَّدَ هذا الاتجاه، وإذا استمر طَوِيلًا، فهذا سَيْعْنِي أن الصين تخاطر بإعادة إنتاج تجربة انهيار الاتحاد السوفيتي. وإذا هيمنت الرأسمالية على الاشتراكية في الصين، أو إذا طغت عليها، سواء في شكل وَاضِح، أم في شكل مُضَلِّل، فسيحدث انهيار النظام السياسي القائم في الصين، وستكون هناك عودة إلى الرأسمالية. ومن ناحية أخرى، إذا ظل ميزان القوى لصالح هيمنة الاشتراكية داخل التَشْكِيلَة المُجْتَمَعِيَة القَائِمَة في الصين، فإن تجربة بناء الاشتراكية في الصين سوف تتعمق في اتجاه الشيوعية. وهذا التطوّر يَعتمد على طبيعة، وعلى حِدَّة، الصراع الطبقي، سَواءً داخل الصين، أم خَارجها.

وتظل «دكتاتورية البروليتاريا» ضرورية ما دامت البروليتاريا موجودة، لكن مِن المُمكن في كلّ حِين أن تَنْـقَلِبَ «دكتاتورية البروليتاريا» ضد البروليتاريا هي نفسها، أو أن تَتَطَوَّرَ لصالح طبقة جديدة من المُسْتَـغِلِّين.

ماذا جرى إذن في الصّين، بعد تطبيق أطروحة «بلد وَاحِد بِنِظَامين»؟ هل اقتربت الصين من الاشتراكية، أم أنها ابتعدت عنها؟ هل نُـفسّر التطوّرات التي جرت في الصّين بالواقعية، أو العَقلانية، في مجال بناء الاشتراكية؟ هل نـفسِّرُها بإكراهات الحاجة إلى التَوفِير السَّريع لِلأَدَوَات الضرورية لِمُقَاوَمَة ضُغُوطات الإمبرياليات الغربية؟ أم نـفسّرها بكونها انحراف برجوازي، أو نـفسّرها بنظرية المؤامرة، أو بخيانة قيادة الحزب الشيوعي الصّيني؟ وهل كان بِمُسْتَطَاع الصين أن تبلغ هذا المُستوى من القدرة على مُقَارَعَة ومنافسة البلدان الإمبريالية في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيات لَوْ لَمْ تَتَّبِع سياسة «بَلَد وَاحِد بِنِظَامين»؟

ولم تَسمح الدول الغربية للصِّين بِدخول «المنظمة العالمية للتجارة» (OMC) إلَّا في سنة 2001، بعد قرابة 15 عاما من المفاوضات والضُغُوطات.  و«المنظمة العالمية للتجارة» هي من أبرز المؤسّـسات المُدافعة عن التجارة الرأسمالية في العالم. وكانت الدول الإمبريالية تستعملها كأداة لكي تـفرض على بلدان “العالم الثالث” فتح اقتصاداتها على السّوق الرأسمالية العالمية، وإخضاع اقتصادها لِقواعد الرأسمالية. ومن الغرائب أنه، في الاجتماع الأخير «للمنظمة العالمية للتجارة»، الذي وَقَعَ في نهاية شهر نونبر 2018، حدث صدام دِيبْلُومَاسِي مُعَبِّر بين الصين وروسيا من جهة، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة الأمريكية (USA). حيث تَـعَدَّدَت خُرُوقَات الولايات المتحدة الأمريكية لِقوانين التجارة الحُرّة الرأسمالية، بِإِيعَاز من الرئيس الأمريكي اليميني المُتَطَرِّف دُونَالد تْرَامْبْ (Donald Trump)، بينما دافعت الصين وروسيا على ضرورة الالتزام باحترام مبادئ وقواعد «المنظمة العالمية للتجارة». وتعني هذه الحادثة أن الولايات المتحدة بدأت تجد صُعوبة في مُنافسة الصين وروسيا في بعض الميادين الاقتصادية الحَسّاسة، وأن الأساليب الرأسمالية العادية لم تَعُد تكفي الولايات المُتّحدة الأمريكية لِمُنَافسة الصِّين وروسيا.

(1) حدثت مجاعة في الصِّين بين سنتي 1958 و 1962.

(2) ماوو تسي تونغ، المجلد الخامس من مؤلفات ماوو تسي تونغ المختارة، 9 تمُّوز 1953، النسخة الأنجليزية في أرشيف الأنترنيت، عن موقع “صوت الشيوعيين العرب”.

(3) https://fr.wikipedia.org/wiki/Réforme_économique_chinoise

(4) Économie de la république populaire de Chine, sur Wikipédia, consulté le 25/11/2018.

(5) https://fr.wikipedia.org/wiki/Réforme_économique_chinoise

(6) نفس المصدر السابق.

(7) https://fr.wikipedia.org/wiki/conomie_de_la_republique_populaire_de_Chine#1976_aujourd’hui_:_l’essor_de_economie_socialiste_de_marche

(8) Rééquilibrage de l’Économie Chinoise: Un état des lieux, Françoise Lemoine & Deniz Ünal, CEPII, 14ème colloque de l’Association de Comptabilité Nationale Paris.

(9) https://fr.wikipedia.org/wiki/Économie_de_la_république_populaire_de_Chine.

(10) المقصود هنا هو الناتج المحلي الإجمالي بِاعْتِبَار “تَـعَادُل القُوَّة الشِّرَائِيَة” (PIB à parité de pouvoir d’achat). وَيَعْتَمِدُ منهج “تعادل القوة الشرائية” على استعمال مِقًيَاس القوة الشرائية، فيما يتعلق بـ “سَلَّة” تَتَكَوَّنُ من 3000 منتوج، بدلاً من الاعتماد على تحويل الناتج المحلي الإجمالي عَبْرَ استعمال “سِعْرِ الصَّرف الرسمي”.

(11) Rééquilibrage de l’Économie Chinoise: Un état des lieux, Françoise Lemoine & Deniz Ünal, CEPII, 14ème colloque de l’Association de Comptabilité Nationale Paris.

(12) نـفس المصدر السابق.

(13) https://fr.wikipedia.org/wiki/%C3%89conomie_de_la_r%C3%A9publique_populaire_de_Chine

(14) “Qui seront les ingénieurs de demain?”, ParisTech Review, sur le Blog “LesEchos”, http://blogs.lesechos.fr/paristech-review/a13937.html

(15) منها مثلًا رِوَايَة: (Qiu Xiaolong, “Dragon bleu, tigre blanc”, Edition Liana Levi, 2014, Traduction française). وأذاعت القناة التلفزية “بِي بِي سِي” بالعربية، في 20 يناير 2019، فيلما وثائقيا، يُظهر مواطنين صينيين يشهدون على «انتشار الرشوة والفساد» في الصِّين.

(16) https://fr.wikipedia.org/wiki/Reforme_economique_chinoise

(17) رِيمِي هِريرَا (Rémy Herrera)، في فِيدِيُو حول كتابه المعنون بِـ: “La maladie dégénérative de l’économie, le néoclassicisme”. [https://www.facebook.com/profile.php?id=100009294356071].

6) هــل يَــحِــقُّ اخــتــصــار الاشــتــراكــيــة في تَــأْمِــيــم وَسَــائِــل الانــتــاج ؟

خلال سنوات 1970، كنّا شُبَّانًا مناضلين في تنظيمات الحَرَكَة المَارْكِسِية اللِّينِينِية بالمغرب (وهي: “منظّمة إلى الأمام”، و”منظّمة 23 مارس”، و”منظّمة لِنَخْدُم الشعب”). وكان بعضنا يُلخّص «الاشتراكية» في«تأميم وسائل الإنتاج، زَائِد دِكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارِيَا (prolétariat)، المُتَجَسِّدة في سلطة لِجَان الكادحين (soviet)». وكُنَّا نـفهم «التَأْمِيمَ» بمثابة تحويل المِلْكِيَة الخاصة (لِوَسائل الإنتاج) إلى مِلكية جماعية، أو مُجتمعية. ومَا زَال بعض المناضلين يكتـفون بمثل هذه التبسيطات. وقد تَبَيَّنَ لنا، فيما بعد، أن هذا التصوّر ناقص. ولاحظنا أن هذا التبسيط للاشتراكية يوجد في الرُّؤْيَة السْتَالِينِية (وفي مُمَارَستها)، وليس في الرؤية اللينِينِيَة، ولا في الرؤية الماركسية.

وفي الاتحاد السُّوفياتي، كان يُقَال عن «مِلْكِيَة وَسَائِل الإنتاج» (propriété des moyens de production) أنها «مِلْكِيَة جماعية». لكن لِمَنْ كانت تَعُودُ حقيقةً المِلْكِيةالجَماعيةلِوَسَائل الإنتاج؟ هل كانت تَعُود إلى الطبقة العاملة، أم إلى الحزب الشيوعي الحاكم، أم إلى الدولة “الاشتراكية” القائمة، أم إلى لِجَان الكَادِحِين (soviets)، أم إلى طَرَف آخر، مثل النُّخَب ذَات الامتيازات في الحزب الحاكم، أو في الدولة، أو النُخَب العُلْيَا، التي تُسَمَّى بِـ: ‘النُمُونْكْلَاتُورَا” (Nomenklatura)؟

ومن بين المَخَاطِر التي يمكن أن تحدث لِلْمِِلْكِيَة الجَماعية لِوسائل الإنتاج، مَا يَلِي: 1) يمكن لِقِوَى مُجتمعية أن تتحكّم في وسائل الإنتاج المُجتمعية دون أن تَتَمَلَّكَهَا بشكل قانوني. 2) يمكن للسلطة المكلّفة من طرف الكادحين بتدبير وسائل الإنتاج الجماعية أن تتحوّل إلى غُول يُهَيْمِن على الطبقة العاملة. ويمكن لهذا الغُول أن يضطهدها، وأن يستـغلّها، وأن يَسْتَحْوِذَ على جزء هام من “فَائِض القِيمَة” (plus-value) المَنتوج من طرف الكادحين. فهل هذا هو ما حدث في الاتحاد السُّوفياتي؟

وقد قام التيار المناصر لِجُوزِيف اسْطَالِين بِتَبْسِيط الماركسية، وقَلَّص فيها الرُّؤْيَة الجَدَلِيَة للظواهر المُجتمعية، وَمَنَع فيها التحليل النـقدي للواقع المُعَاش. ومن بين الأخطاء التي سَاهَمَت في انهيار الاتحاد السُّوفْيَاتِي، الاعتـقاد بِكِفَايَة تحويل وسائل الانتاج إلى مِلْكِيَة عُمُومِيَة أو مُجتمعية، والاعْتِمَاد على قمع المُخَالِفِين أو المُعارضين السياسيين، بِمُبَرِّر مُمَارسة «دِكتاتُورية البُرُولِيتَارْيَا». كأن الجوهر في «الاشتراكية» هو فقط تغيير طبيعة «مِلْكِيَة» وسائل الانتاج. وهذا تصوّر خاطئ، بل مُنَاقِض للماركسية. وما الفائدة من تحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية مُجتمعية، إذا كانت عَقْلِيَات وَسُلُوكِيَّات المسؤولين والمواطنين سَتَبْـقَى مَحْشُوَّة بالقِيَم الرأسمالية، والانتهازية، والأنانية، والاِفْتِرَاس، والغِشِّ، والنـفَاق؟ حيث لا يمكن أن ينجح التحرّر من الرأسمالية إذا اقتصر فقط على تغيير تنظيم المُجتمع، أو على تغيير اقتصاده (تغيير شكل المِلْكِيَة)، أو تغيير توزيع الثروات.

وَنَبَّهَ شَارْل بِيطَلْهَايْم إلى أن «تَأْمِيم وَسَائِل الإنتاج مِن طرف دولة ابْرولِيتَارِيَة يَنْتُج عنه أَوَّلًا وأساسًا خلق الشُّروط السياسية والقانونية المُلَائِمَة لِإِحْدَاثِ تَـغْـيِـيـر اشتراكي في عَلَاقات الإنتاج، وبِالتَالي فهو يفتح إمكانية إخضاع وسائل الإنتاج إلى النظام الاشتراكي، لكن هذا التَأْمِيم لَا يَتَطَابَـقُ مع هذا التَـغْـيِـيـر الاشتراكي لِعلاقات الإنتاج»(1). فَمَثَـلًا التَأْمِيم، أو تغيير الشكل القانوني لِلملكية، لَا يكـفـي وحده لكي يَزُول الفصل بين العمل الذِهْنِي والعمل اليدوي، والفصل بين مَهام التدبير ومهام التَنْـفِـيـذ.

وعلى مستوى التَشْكِيلَة المُجتمعية، لا يكفي تغيير البِنْيَات التَحْتِيَة للمُجتمع (بما فيها علاقات الانتاج)، بل يَلْزَمُ أيضًا إحْدَاث تغييرات مُلَائمة في البِِنْيَات الفَوْقِيَة (بما فيها التـقَالِيد، والمُعتـقدات، والمَعَارِفْ، وَمَنَاهِج التـفْكِير، والعلاقات التَرَاتُبِيَة، وَنَوْعِيَة السُّلُوكِيَات، إلى آخره). ويستوجب التحرّر من الرأسمالية القيام بِتَـغْيِيرَات ثورية، شُمُولِيَة، ومتواصلة. حيث يَـقْتَضِي تـفْعِيل الجُرْأَة على تغيير نَوعِيَة المُجتمع في عُمْقِه، وتغيير نوعية البَشَر، وتغيير عَقْلِيَاتهم، ومَنَاهِجِهِم، وعَلَاقَاتهم، وثـقافاتهم، وسُلُوكِيَاتهم، وقِيَمِهِم، وعَادَاتهم، إلى آخره. وكان ينبغي أيضًا، وفي نـفس الوقت، الحِرص على تـفْعِيل عِدّة آليات مُجتمعية، وتـفَاعُل عِدّة حركات ثورية أخرى، لِكي تَـتَكَامَلَ فيما بينها. لأن تَشْيِيد الاشتراكية، هو ثورة مُجتمعية شُمُولية، وعَمِيقَة،ومُتَوَاصِلَة. والشُّرُوع في بناء الاشتراكية هو دخول في قَطِيعَة جَذْرِيَة (rupture radicale) مع كل مُـقَوِّمَات المُجتمع الرأسمالي. فإذا لم تكن مناهج هذه الاشتراكية مُجتمعية، وشُمُولِيَة، وَنـقْدِيَة، وثورية، فإنها سَتَنْحَرِفُ بسهولة، وَسَتَتَلَوَّثُ بالعَقْلِيَات الرأسمالية الانتهازية، ثم ستـفشل بشكل مأساوي. وعلى خلاف المناهج السْتَالِينِيَة، نَـفْتَرِضُ في هذه الآليات المُجتمعية الثورية أنها تُساعد على محاربة احتكار السلطة السياسية. وَنَـفْتَرِضُ فيها أنها تُنَاهِضُ احتكار الحقيقة في الرأي الوحيد. وَنـفْتَرِضُ فيها أنها تُكَافح ضدّ كل أشكال الاستبداد. ونـفترض فيها أنها تُـقَاوم انبعاث فئات طَبَقِيَة مُسْتَغِلَّة، أو مُسْتَبِدَّة، ولو كانت مُسْتَتِرَة، أو مُمَوَّهَة.

ونَذْكُر من بين هذه الآليات المُجتمعية الضّرورية: 1) ترسيخ «مصدر السلطة السياسية» في مجالس الكادحين (soviets)، [وليس في قيادة الحزب الشيوعي، أو في زعيمه]؛ 2) تعميم المُرَاقَبَة المُتَبَادَلَة، والمُحَاسَبَة المُتبادلة، في جميع الميادين، وعلى جميع المستويات [وليس التركيز على المراقبة المُخَابَرَاتِيَة للمُخَالِفِين، والمُعارضين السياسيين]؛ 3) ترسيخ حُرِّيات النـقْد، وحرّيات المُبَادَرات القاعدية [وليس احتكار المبادرة من طرف رئيس الدولة، أو من طرف قيادة الحزب، أو زعيمه]؛ 4) الالتزام الصَّارِم بِدَوْرِيَّة تـقْيِيم المُنْجَزَات، والتجارب، والانـفِتَاح على النـقْد، والتَعَهُّد بِتَـقْوِيم كل ما هو ناقص، في جميع الميادين، وعلى جميع الأَصْعِدَة [وليس التمجيد المُسْبَق، وغير المَشْرُوط، لِكُلّ ما يصدر عن رئيس الدولة، أو عن قيادة الحزب]؛ بالإضافة إلى آليات مُجتمعية أخرى مُكَمِّلَة، يلزم اكتشافها، أو إِبْدَاعُها.

وإذا لم تسمح السلطة السياسية الثورية القائمة، أو الدولة الاشتراكية الانتـقالية، بوجود بُؤَر لِسُلُطَات مُضَادَّة، تكون مُـقْتَرِحَة، ونَاقِدة، ومُبْدِعَة، فإن تـقويم الأخطاء، وتَصْحِيح الانحرافات المُحتملة، التي قد ترتكبها السلطة السياسية المركزية، سَيَغْدُو صَعْبًا، أو مُستحيلًا.

(1) شارل بيطلهايم، “تاريخ الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي” (بالفرنسية)، الجزء 2، سُويْ مَاسْبِيرو، باريس، 1974، الصفحة 116.

7) هــل الطــبــقــة الــعــامــلــة دائــمًــا ثــوريــة ؟

خلال سنوات 1970، وفي إطار تنظيمات الحركة الماركسية اللينينية بالمغرب، كان بعضنا، كَمُناضلين شباب، يَـتَّصِفُ ببعض الأخطاء المُمَيِّزة لِلَمَارْكِسِيِّين المُبْتَدِئِين، أو العَامِيِّين. فَكان بعض المناضلين يُبَالِغُون مثلًا في تَمْجِيد «الطبقة العاملة». وكان بعضنا يُرَوِّج عن الطبقة العاملة تصوّرًا غير عقلاني، وغير جَدَلِيّ. وكان بعضنا يَدَّعي أن «الطبقة العاملة هي الطبقة الثّورية حتى النهاية». وكان بعضنا يقول عن الطبقة العاملة أنها هي «الطبقة الطَلِيعِيَة(avant-garde) بِامْتِيَاز». وكان بعضنا يزعم أن «العُمَّال هم المؤهّلُون أكثر من غيرهم لكي يكونوا مناضلين، وثوريين، وطَلِيعِيِّين». وكان بعضنا يتصوّر أن الطبقة العاملة هي «طبقة ثورية، وطَلِيعِيَّة، بشكل دائم». وكان بعضنا يُلْصِق بهذه الطبقة كل الخِصال السياسية الحَميدة. وكان بعضنا يتخيّل أن «الطبقة العاملة هي وحدها التي تـقدر على تحرير المجتمع بِرُمَّتِه».

وهذه الأطروحات (السَّابقَة) غير سَليمة. لأنها لَا تَسْتَوْعِبُ جَدَلِيَّة الماركسية. ولأن الواقع لا يؤكّدها دائمًا. حيث يمكن للطبقة العاملة أن تكون حقيقةً ثورية، أو طليعية، خلال فترات تاريخية محددة.كما يمكنها أن تـفقد هذه الصِّفَات خلال فترات أخرى. الشيء الذي لا يَنـفِي أن تَعَرُّضَ الطبقة العاملة لِلْاِسْتِغْلَال الرَّأسمالي، يُؤَهِّلُهَا، كطبقة، أكثر من غيرها، لكي تكون ثورية.

وخلال فترات تاريخية مُعيّنة، يمكن لِفِئَات مُجتمعية مِن غير الطبقة العاملة (مثل فئات الفلاحين، والجنود، والبورجوازية الصغيرة، والمثـقّـفين الثوريين)(1)، أن تكون، هي أيضا، مناضلة، أو ثورية، أو طَلِيعِيَة، دون أن تكون هذه الصِّفَات ثابتة، أو دائمة. حيث تتبدّل هذه الصِّفَات مع تبدّل الأوضاع المُجتمعية، أو التاريخية.

وفي الرُّؤْيَة الماركسية الكلاسيكية، إِمَّا أن يقوم العمال بالثورة، وإمَّا أن الثورة لَا تحدث. لكن عندما ندرس الثورات الكبرى التي حدثت خلال القرن العشرين، مثل الثورات التي نجحت في روسيا (1917)، والصِّين (1949)، وفِتْنَام (1975)، إلى آخره، نُلَاحظُ باستغراب في هذه الثورات أن دور الفلاحين الفقراء، والبرجوازية الصغيرة، والمثـقفين الثوريين، كان أكثر تأثيرًا، وقُوَّةً، وفعالِيَةً، بالمقارنة مع دور العمال الصِّنَاعِيِّين. بمعنى أن تظافر جهود الطبقة العاملة مع طبقات الشعب الأخرى هو الذي يكون فَعَّالًا وحَاسِما.

وتُوجد أطروحة أخرى(اسْتَالِينِيَة)تُضْفِي الصِّفَات المُـفْتَرَضَة نَظَرِيًّافي «الطبقة العاملة» (أو في البْرُولِيتَارْيَا) على «حِزب الطَّبَقَة العَاملة» المُفْتَرَض.وتُمَدِّدُ هذه الأطروحة، بِشَكل مُطلق ودَائم، صفات ”الثورية”، و”الطَلِيعِيَة” (avant-garde)، على «حزب» الطبقة العاملة المُفْتَرَض. ثم تَدَّعِي هذه الأطروحة وُجُود امِتِدَاد، أو تَطَابُق، بين الطبقة العاملة، وزعيم حزب الطبقة العاملة. حيث أصبح زعيم الحزب الشيوعي، جُوزِيف اسْطَالِين، بِمَثَابَة مُمَثِّل، أووَكِيل،لِلبْرُولِيتَارْيَا. وهي أطروحة غير مُثْبَتَة، وغير سَلِيمة، وغير مَاركْسِيَة. لأنه لَا يُوجد في الواقع، لَا تَطابق مَضْمُونٌ، ولَا انْسجام دَائم، بين الطَبقة والحِزب. ولا يُوجد ما يُثْبِتُ انتـقال صِفَات الطبقة العاملة بِشَكْل آلي إلى الحِزب الذي يُفترض فيه أنه يَسْتـقْطِبُ العُمَّال، أو ينظّم جزءًا من أفراد الطبقة العاملة، أو يَخدمها، أو يُمَثِّلها.

وخلال سنوات 1970، كانت حركاتنا الماركسية اللينينية بالمغرب مُكَوَّنَة على الخصوص من أشخاص مُثـقَّـفِين ثَوريين، ومن شباب، ومن طلبة، ومن بعض الأطر الثوريين (معلّمين، أساتذة، تـقنيين، مهندسين، إلى آخره). وكانت من بين إشكالياتنا آنذاك الرَّغْبَة في تحقيق التَجَذُّر في الطبقة العاملة. بِمَعْنَى الانغراس فيها. وكان المُفْتَرَضُ نظريًّا هو أن يَحْتَضِنَ العمالُ بِتِرْحَابٍ مناضلِي حركاتنا الماركسية اللينينية. لأننا كنا ندافع عن المصالح الأساسية للعُمال. وفي الواقع، لا يكفي أن يُدافع شخص مُعَيَّن عن مصالح الكادحين، لكي يفهمه الكادحون، أو لِكَي يَلْتـفّوا حوله. وخلال سنوات متوالية، حاول عدد لا بأس به من مناضلينا سُلُوك طريق «الاِنْتِحَارالطَبَقِي» (أي التضحية بالدراسة، وبالمهنة، وبالعائلة، بهدف الاشتغال كعمّال، وتجريب تأطير العُمّال من داخل المَعْمَل).

ولاحظنا باستـغراب أن نتائج محاولات تَجَذُّرِنَا في الطبقة العاملة بَـقِيَت على العُموم ضعيفة، أو فاشلة. ولم نكن آنذاك نـفهم لماذا تَخْـفِقُ محاولات تَجَذُّرِنَا. وكان بعض المناضلين (الذين لم يُحاولوا التَجَذُّر في الطبقة العاملة) يمجّدون هذه الطبقة. وكانوا يتكلمون عن العمال كنوع من الثوريين المِثَالِيِّين. وصُدِمَ بعضُ المناضلين (الذين حاولوا ربط علاقات مباشرة مع العمال) بِسُلُوك بعض العمال. حيثُ كانت أقلية من العمال تُخْبِرُ فَوْرًا المُشَغِّل أن شخصا مُحَدَّدًا يُحاول تَسْيِيسَهم، أو تَوْعِيَّتَهم، أو تَنْـظِيمهم. وكان المُشَغِّلون يطردون فورًا كل شخص يتكلّم للعمال عن النـقابة، أو عن السياسة. وحتى النـقابات كانت تميل إلى محاربة كل شخص يحاول تَوْعِيَة العمال، أو تَثْوِيرِهِم، أو تنظيمهم. وكانت عوامل مثل الفقر، أو الأمية، أو الجهل، أو الخوف من القمع، تدفع كثيرا من العمال إلى إهمال تثـقيفهم الذَّاتِي. وكانت خشيتهم من القمع، أو من الطَّرْد، تجعلهم يَتَلَافَوْنَ المشاركة في النضال. وكانت ظروفهم القاهرة تَحُثُّهم على الاِقْتِصَار على تَوْفِير الحاجيات المادية الضرورية للعيش. وكان بعض العمال مُستعدِّين لِلْخُضُوع، أو لِلْاِنْضِبَاط، لكل شخص يمنحهم المال، أو يُقَدِّمُ لهم مُساعدات مَادِّيَة. ولم تكن هذه السُلُوكِيَات خاصة بالعمال، وإنما كانت شائعة في مجمل جماهير الشعب(2). وهي مظهر من بين مظاهر تخلّف المُجتمع.

وكان بعض الماركسيين يفترضون أن الظروف الطبقية لعيش العمّال (أو البروليتاريا) تجعلهم موضوعيًّا مؤهّلين (تـقريبا بشكل تِلْـقَائِي [spontané]) لاكتساب الوعي النظري الثوري (بِمعنى الماركسي). وكان هؤلاء الماركسيين يظنّون أن العمال مُهَيَّئِين بشكل طبيعي لكي يُغيّروا منظومة المُجتمع في شموليتها. بينما الملاحظ، من خلال التجربة الملموسة، هو أن إدراك هذا الوعي النظري الثوري يظلّ صعب المنال على العمّال. ولا يمكن أن تـظهر معرفة النظرية الماركسية بشكل تِلْقَائي (spontané) سَوَاءً لَدَى العُمّال، أم لدى غيرهم. ولا يمكن للمعرفة العاَمِّيَة أن تتحوّل تلقائيا إلى معرفة عِلْمِيَة. وإذا بَـقِيَ العمّال مَسْجُونِين في ظروف مِهَنِيَة عُمَّالية، سيكون من الصّعب عليهم أن يَلِجُوا إلى هذا الوعي النظري الثوري (الماركسي). وإذا لم يساهم مثـقفون ثوريون (وأحزاب ثورية) في سيرورة إِشَاعَة هذا الوعي النظري الثوري داخل الطبقة العاملة، وداخل كادحين آخرين، وبِأَسَالِيب مُبْدِعَة، فسيكون صَعب المَنال على العُمال. وذلك دون أن ننسى أن التَعْلِيم، والتَعَلُّم، هُما في العمق مُتَبَادَلَان بين المُعلّم والمُتَلَقِّي.

وفي سنوات 1970، كنّا في “التنظيمات الماركسية اللِّينِينِية” بالمغرب نـفْتَرِضُ أن العمال مؤهّلين لكي يَعُوا بشكل تلقائي أوضاعهم الطبقية. وكنّا نظنّ أن نضالات الطبقة العاملة (النـقابية، أو الاحتجاجية) يصاحبها بالضّرورة تنامي، وانتشار، وتجذّر، الوعي النظري الثوري لدى جماعات واسعة من الطبقة العاملة. بينما كانت التجربة تُبيّن أن هذه العلاقة (بين النضال، والوعي النظري الثوري) لا تَسِيرُ دائما، وبشكل تِلْقَائي، أو حَتْمِي، في هذا الاتجاه الإيجابي المَرْجُو. حيث أن تعميق الوعي النظري الثوري يتطلّب، سواءً على مستوى الفرد أم الجماعة، مجهودا دِرَاسِيًّا خاصّا، ومُنـظّما، ومُتواصلا، ومُمَنْهَجًا.

وكان معظمنا يُبَالِغُ في الاحتياط من «طبقة البرجوازية الصغيرة» (petite bourgeoisie). بل كُنَّا نُهِينُ، أو نسْتَبْعِدُ، كل ما له علاقة بهذه «الطبقة البرجوازية الصغيرة». ولم يكن كثيرون مِنَّا يفهمون جيّدًا التـفَاعُلَات الجَدَلِيَة والخَفِيَّة فيما بين الطبقة العاملة من جهة أولى، ومن جهة أخرى الفلاحين (المُعْدَمِين، والصِّغار، والمتوسطين)، والبرجوازية الصغيرة، والبرجوازية الوطنية. وهذه الطبقات هي بالضّبط الطبقات المؤهَّلة لتحالف طبقي استراتيجي مع الطبقة العاملة، وتحت قِيادتها الطبقية، خلال المرحلة الانتـقالية إلى الاشتراكية.

وقد علّمتنا الماركسية أن تعرّض أفراد «الطبقة العاملة» إلى الاستغلال الرأسمالي، هو العامل الرئيسي الذي يُؤَهِّل موضوعيا هذه الطبقة (كَطَبَقَة) لكي تكون «ثورية». لكن هذه «الثورية» ليست صِفَة آلية، أو مُطلقة، أو دائمة، وإنما هي صفة نِسْبِيَة، ومُتَطَوِّرَة، وقابلة لِلصُّعُود، أو لِلْخُفُوت، وذلك في ارتباط بمستوى تطوّر الصراع الطبقي، وفي تـفاعل مع مُعطيات كثيرة، مُجتمعية، وَعَالَمِيَة. ولا يقدر حتى الحزب الثوري” (أو الشيوعي)، هو نـفسه، على ضَمَان دَيْمُومَة ثَوْرِيَتِه، فبالأحرى أن يقدر على ضمان دَيْمُومَة ثَوْرِيَةالطبقة العاملة. ويُفْتَرَضُ في الحزب الثوري المَاهِر، أنه يستغلّ كل حركة نضالية، وأنه يستثمر كلّ تـقدّم سياسي حصل لدى إحدى طبقات الشعب، لكي يرفع مستوى الوعي السياسي، أو الفِعل النضالي، لدى طبقات الشعب الأخرى.

والطبقة العاملة هي جُزء عُضوي من المُجتمع، ومن الشعب. فإذا كان مثلًا المُجتمع مُتَخَلِّفًا (اقتصاديا، أو سياسيا، أو ثـقافيا، أو نِضَالِيًّا، أو عَقَائِدِيًّا)، فمن المُحْتَمَل أن يُؤَثِّر هذا التخلّف على مجمل مُكَوِّنَات المُجتمع، بما فيها الطبقة العاملة. وَلَوْ أن هذا التأثير يحدث بشكل مُتـفَاوِت، حسب الزمان، وحسب المكان، وحسب الأوضاع الطبقية لكل فاعل مُعَيَّن.

ويمكن للطبقة العاملة، خلال فترة مُعيّنة، أن تكون موجودة على مستوى الإحصائيات المِهَنِيَّة، دون أن يكون لها وجود مُعْتَبَر في المجال السياسي، أو في مجال الصراع الطبقي. وبعبارة فَلْسَفِيَّة، يمكن للطبقة العاملة أن تكون طبقة فِيذَاتِهَا(en soi)، دون أن تكون بالضرورة طبقة لِذَاتِهَا(pour soi)،وذلك على مستوى الفِكر، أو الوَعي، أو المُبادرة، أو الفِعل. وفي هذه الحالة، قد لا تـقدر الطبقة العاملة على أن تكون فَاعِلًا طبقيًا، وَاعِيًا، ومُبَادِرًا، وفَعَّالًا. وغالبًا مَا لَا يكون وُجود طبقة مُعيّنة (مثل الطبقة العاملة) مَحْسُوسًا في المُجتمع، إِلَّا حينما تتصارع هذه الطبقة مع طبقات أخرى. لِذَا نـقول أن المُؤَشِّر على وُجُودِ أَيَّة طبقة، هو فِعْلُها في مَجال الصِّراع الطَبقي. وَوَعْيُ كل طبقة بِمَوْقِعِها، وبِدَوْرِها، في الصراع الطبقي، هو الذي يُؤَهِّلُهَا لكي تتحوّل من طبقة في ذَاتِهَا(en soi) إلى طبقة لِذَاتِهَا(pour soi). ومن مِنْظَار مَاركسي، لِكَي يُوجَدَ تَحَرُّك الطبقة العاملة كَطَبَقَة، يَنْبَغِي أن يَكُون أفرادها حَامِلِين لِوَعْي طَبَـقِي. أَيْ أن يُدْرِك أفراد الطبقة العاملة أنهم يَحْتَلُّون نـفس الموقع الطبقي في بِنْيَة المُجتمع، وهو مَوقع الكَادِحِين المُسْتَغَلِّين.

والطبقة العاملة هي أيضًا وحدة مُتناقضة. وتتكوّن من فئات مُتـفَاوِتَة. ومن الخطأ الاعتـقاد أن العمّال هم كلّهم مَبْدَئِيِّين، أو وَاعِين، أو عَقْلَانِيِّين، أو دِيمُوقراطيين، أو ثَوْرِيِّين، أو اشتراكيين. وقد يُوجد ضمنهم المُتـقَدِّمُون والمُتَخَلِّفُون، والتـقَدُّمِيُّون والمُحَافِظُون، والمُتَضَامِنُون والانتهازيون، والمُكَافِحُون والغَشَّاشُون، إلى آخره.

وكل طبقة تتميّز بِوضع خاص. وخصوصية الطبقة العاملة هي أنها تخضع للاستـغلال الرأسمالي بشكل مباشر. وهذه الخصوصية لا تُحَوِّلُها بالضرورة إلى طبقة ثورية مِثَالِيَّة (idéale). حيث يُمكن للطبقة العاملة، خلال فترات تاريخية مُحدّدة، أن تكون فعلاً واعية، ثورية، مُبادرة، مناضلة، طليعية. لكن من الممكن أيضًا أن تَـفْقِدَ الطبقة العاملة هذه الصّفات خلال فترات أخرى. وصِفَات الوعي، أو الكفاح، أو النضال، أو الثورية، أو الطَلِيعِيَة، ليست صِفات ثابتة (سَوَاءًلَدَىالشُّعُوب، أم لَدَى الطبقات، أم الأحزاب، أم الجماعات، أم الأفراد). وإنما تتطور هذه الصِّفَات مع تبدّل الأوضاع المُجتمعية، والعَالمية، والتاريخية.

فالطبقة العاملة ليست ثابتة، أو جامدة، بل تتطور باستمرار، وذلك في ارتباط بتطور المُجتمع. ووعيها السياسي، أو الطبقي، يمكن أن يتـقدّم، كما يمكن أن يتأخّر. وكل عضو فيها يتطوّر هو أيضا. ويمكن قول أشياء مُماثلة عن الفلاحين، أو عن البرجوازية الصغيرة، أو عن البرجوازية الوطنية، أو عن فئات المثـقفين، إلى آخره. ويمكن لطبقات الشعب أن تُـقَوِّيَ بعضها بعضًا، كما يمكنها أن تُضْعِفَ بعضها بعضًا. فَلَا تـقدر المساهمة السياسية للطبقة العاملة على أن تكون مُتـقدّمة، أو فَعَّالَة، إِلَّا إذا تـعاونت، أو تكاملت، مع طبقات الشعب الأخرى. وبعبارة أخرى، فَإن إيجاد تحالف طَبَقِي ملموس، ومتواصل، بين الطبقة العاملة وطبقات الشعب الأخرى، هو سِرُّ نجاح الثورة، وبدونه يبقى كل شيء مستحيلًا.

(1) وبالمُصْطَلَحَات الطَبَقِيَة التي استعملها الكاتب رحمان النوضة، في كتابه “طبقات المتمع”، يمكن القول: خلال فترات تاريخية مُعَيَّنَة، يمكن لفئات من طبقة الذين لَا يَسْتَغِلُّون ولَا يُسْتَغَلُّون، أو من طبقة المُسْتَـغِلِّين الصِّغَار، أن تكون مناضلة، أو ثورية، مثل طبقة المُسْتَغَلِّين، أو حتّى أكثر منها، دون أن تكون هذه الصفات دَائمة.

(2) أنظر في هذا المجال كتاب: “نـقد الشعب”، رحمان النوضة (الصيغة 54). ويمكن تحميله من مدوّنة الكاتب: (https://livreschauds.wordpress.com/2018/09/13/كتاب نقد الشعب/).

8) لِــمَــاذا الــثــورة الــثـــقــافــيــة الــسِّــلْــمِــيَــة الــمُــتَــوَاصِــلَــة ضَــروريــة ؟

خلال سنوات 1970، كُنَّا في “الحركات الماركسية اللينينية” بالمغرب، كُنَّا نَـظُـنّ أن حزب البَلَاشِفَة (bolcheviks)، الذي تركه لِينين بعد موته (في سنة 1924)، كان يَحْظَى كُلُّ أعضاءه بتكوين سياسي ونظري من مستوى عَالٍ. لكن حينما ندرس الحماقات والجرائم التي ارتكبها جُوزيف اسْطَالِين وأنصاره بين سنتي 1924 و 1953، وذلك بِمُساندة مُعْظَم أعضاء الحزب الشيوعي، نُدْرِكُ أن ارتكاب هذه الحماقات والجرائم لَمْ يَـكُنْ مُمكنًا إلَّا لِأَنَّ مُستوى التكوين السياسي والنظري كان ضَعِيفًا لَدَى نِسْبَة هامّة من أعضاء الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي. صحيح أن كثيرين من الأطر الأَوَّلِيَة في الحزب الشيوعي (قُبَيْلَ وبُعَيْدَ ثورة 1917) كانوا يَحْظَوْنَ بِتكوين سياسي من مستوى مُتـقدِّم. لكن الدَّاهِيَة اسْطَالِين بدأ بالضبط باتِّهَام، أو طرد، أو قَتْل، مُعْظَم هؤلاء الأُطُر العُلْيَا في الحزب، وفي الجيش. وَلَوْ لَمْ يَستـغل اسْطَالِين ضُعف التّكوين النظري والسياسي المَوجود لدى نسبة هامّة من أعضاء الحزب، لَمَا كان بمقدوره أن يُمَرِّرَ سياساته التَصْفَوِيَة ضِدَّ مناضلي الحزب الأوائل المُتَمَرِّسِين. وفي قرابة سنة 1937، لم يبقَ حَيًّا أيُّ أحد من بين المناضلين الذين لَعِبُوا أَدْوَارًا مهمة، سواءً في الحزب البلشفي، أم في ثورة 1917. وبعد تَثْبِيت وتعميم إرهاب الحزب، وإِرْهَاب الدولة، غَدَى اسْطَالِين يتلاعب بِسهولة كبيرة بالحزب الشيوعي.

لِذَا نُؤَكِّد، ونُكَرِّر، أن أقوى أَدَاة لِتَعْبِئَة الجماهير، ولإشراكها في تصوّر، وفي إنجاز، الثورة المُجتمعية، وفي تشييد الاشتراكية، ليست هي العُنـف، وليست هي الدعاية، وليس هي الزَّبُونِيَة، وإنما هي الثَوْرَة الثـقافية الجماهيرية السِّلْمِيَة المُتواصلة.
وَقَدْ كَتَب الكثيرون من المُثـقـفين الغَرْبِـيِّـيـن أن “الثورة الثـقافية” في الصين كانـت مُغامرة حَمقاء، وأنها خَلَّـفَـت الكثير من الاضطهاد، ومن الضحايا. لكن هؤلاء المثـقفين الغربيّين لم يُدركوا أنه لولا هذه “الثورة الثـقافية” لكانـت الصين قد غرقت هي أيضًا في انحراف يميني مُبكر، مثلما حدث في الاتحاد السوفياتي في عهد حُـكم اسطالين. وبعبارة أخرى، فإن “الثورة الثقافية” هي التي أنـقـذت الصين من انهيار مشابه للانهيار الذي حدث في الاتحاد السوفياتي في قرابة سنة 1990. وَمِن المَـفْـهُوم أن يَكُون الكثيرون من المُـثَـقَّـفِين الـغَـربيّين، الرَّافِضِين لِلشِيُوعِيَة، مُـعَـارِضِين لِـ “الثورة الثـقافية”. لأن هذه “الثورة الثـقافية” هي التي تُـمَـكِّـنُ مِن تَـثْـبِـيـت التَوَجُّه نَحْو الاشتراكية.

والمفتاح الرئيسي لِرَفْعِ مُستوى تـقدّم المُجتمع، هو تعليم وتثـقيف أبناء الشعب، ليس فقط خلال الصِّبَا، وإنما أيضًا بشكل مُتَوَاصِل، على امتداد الحياة كلّها.
ومن بين أهم أسـس التـقدّم السياسي، أو النجاح الاقتصادي، تَحْصِيلُ المعارف العِلمية، وَمُرَاكَمَتُهَا، والمُساهمة في إنتاجها، وفي تَمْحِيصِها، ونَـقْدِهَا، وتَطويرها، وَتَـوْثِـقِـهَـا. فإذا كانت نَوْعِيَةُ تَـثْـقِيف أبناء الشعب عِلْمِيَّةً، ونَاقِدَة، ومُتَوَاصِلة، استطاع هذا التـَثـقِيف أن يُسَاهِمَ في تَحَرُّر الجماهير. وإذا كانت نَوْعِيَةُ تعليم أبناء الشعب مُحافِظَة، أو رَدِيئَة، أو مُتَخَلِّفَة، أو دِينية، أصبحَ الجهلُ هو السَّائدُ. وانتشار الجهل في المُجتمع يؤدِّي حَتْمًا إلى انـتشار الْأَنَانِيَة، وَطُـغْـيَان الغِشِّ، والانتهازية، والأفكار اليمينية. ثمّ يُسَاهِم هذا الجهل هو بدوره في تـفَاقُم انحطاط المُجتمع.

ومن ميزات الرأسمالية أنها تَدْفَعُنَا باستمرار إلى التضحية بالوقت المُخَصَّص إلى التَـثـقِيف الذَّاتِي (خُصوصًا عبر قراءة مَرَاجِعَ ثـقافية من مستوى مُمْتَاز). وإذا لم نُـقاوم الرأسمالية، وإذا لم نَـنْـتَـزِع منها، في كلّ يوم، وقتًا مُخصّصًا للتثـقـيـف الذّاتِي، فإننا سَنَـغْرَقُ بالتّأكيد، وبالتَدْرِيج، في جهل مُتَزَايِد. ولَا تَنْتَبِه قوى اليسار بالمغرب إلى هذا النَـقْص، رغم خُطورته.

وقد كان النظام السياسي القائم في الاتحاد السوفياتي لا يهتمّ بما فيه الكفاية بِالتَـثْـقِيـفْ المُنَـظَّم، والمُعَمَّق، والمُتَوَاصِل على مَدَى الحياة، لِـمُجْمَل أفراد الحزب، والشعب. وكان النظام السوفياتي يُـقَلِّـلُ من مَدَى أهمّية هذا التـثـقيف العِلْمِيوالسياسي في مَجال مُواجَهَة الخُصوم السياسيين الدَّاخليِّين، وكذلك في ميدان مُقَاوَمة الخُصوم الخارجيين (الإِمْبِرْيَالِيَات العالمية). وَكانت الحِوارات السياسية، والصِّرَاعَات الفكرية،الجَارِيَة في النظام السُّوفياتي، نَادِرَة، أو مَخْنُوقَة، أو مَقْمُوعَة، أو مَحْصُورَة في بعض الأوساط الضَيِّقَة (مثل الأوساط الحزبية، أو الجَامِعِيَة). ولم تَـكُن الحوارات الثـقافية، والصراعات السياسية، مُوَسَّعَة إلى عَامَّة جماهير الشعب. لأن إشراك جماهير الشعب في الحوارات السياسية، وفي الصراعات الفكرية، هو الذي يُساعدها على صَقْلِ حِسِّهَا النـقْدِي. ولَمَّا ظهرت في المُجتمع السوفياتي إِشْكَالَات سياسية كُبرى، بل مَصِيرية، تَبَيَّنَ عجز جماهير الشعب على المشاركة في نـقَاشها، أو في مُعالجتها، طِبْقًا لمصالحها الثورية. فكان إهمال التَـثْـقِـيـف(العِلْمِي والنـقْدِي) للشعب من بين الأسباب التي ساهمت في تسهيل انهيار الاتحاد السوفياتي. وكلمَا كانت نِسَبٌ هَامَّة من الشّعب «أُمِّيَة»، أو «ذات مستوى ثـقافي ضَـعِـيـف»، أو مُسْتَلَبَة (aliéné)، أو مُمْتَـثِـلَة (conformiste) لِلدِّعَايَة السَّائِدة، سَـيَـجِـدُ الشعبُ نـفسَه عاجزًا على تحقيق طُمُوحَاته التحرّرية.

وقد استـفادت نسبيًّا الصِّين من بعض الأخطاء أو النـقَائِص التي حَدثت خلال تجارب الاتحاد السُّوفياتي. ومَنَحَت الصِّين عِنَايَة أكبر نِسْبِيًّا إلى التَـثـقِيف المُتَوَاصل للجماهير الكادِحة. وأَطْلَـقَ الحزب الشيوعي الصِّيني عدّة حركِات«ثـقَافية»،أو «تَصْحِيحِيَة»، تستعمل أَسَاليب: تَعْبِئَة الجماهير، وفتح النـقاشات السياسية، والتَـثـقِيف الفِكْرِي، والمشاركة في خوض الصراع السياسي. ومن أبرز هذه الحركات “الثـقافية”: «حركة مِئَة زَهْرَة» بين سنتي 1956 و 1957، و«حركة القَـفْزَة الكُبْرَى» بين سنتي 1958 و 1960، و«حركة التَرْبِيَة الاشتراكية» بين سنتي 1962 و 1965، و«حركة الثورة الثـقافية» بين سنتي 1966 و 1976. وكل هذه الحركات، كانت، ومَا زالت، مُلْتَبِسَة نِسْبِيًّا، وتُثِير لَدَى المُهْتَمِّين، نـقاشات فكرية، وخلافات سياسية، وصراعات فلسفية. ورغم بعض التَجَاوُزَات التي حدثت خلال هذه الحركات، كانت «الثورة الثـقافية» في الصّين، أكثر إفادةً، وأقَلُّ ضررًا، بالمقارنة مع حَمَلَات «التطهير»، و«التَّرْهِيب»، و«الرُّعْب»، التي وَقَـعَت تحت حُكْم المُسْتبد جُوزِيف اسْطَالِين.

وفي هذا الموضوع، سبق للمناضل المغربي ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي، وهو قِيَّادِي سابق في “منظمة إلى الأمام”، أن قال: «كنتُ مُتابعا للثورة الصينية منذ بداياتها، أي منذ مَطْلَع سنوات 1950. وعندما حدثت القطيعة بين الشيوعيتين السوفياتية والصينية، كنتُ منحازا إلى الأخيرة. وقد تَضَمَّنَت نصوص مَاوُو زِي دُونْغْ عُنْصُر الثـقافة، وهو أُفُقٌ لم تَأْبَهْ به الشيوعية السُوفْيَاتِيَة»(1). [وعلى خلاف إشارة السرفاتي السَّابقة، كان افْلَادِيمِير لِينِين يهتمّ بتثـقيف جماهير الشعب(2)، لكن خَلَفَهُ جُوزِيف اسْطَالِين هو مَن اِبْتَعَدَ عن هذا التَوَجُّه]. وأضاف السَّرْفَاتِي: «مَنَحَتْ أيضا المَاوِيَةُ شُعوب العالم الثالث مَـكَانَةً، بينما الشيوعية السوفياتية، أو الاتحاد السوفياتي عموما، لَعِبَ فعلا دورا في الحَرب المُناهضة للإمبريالية، لكنه أبقى شعوب العالم الثالث مُتَوَارِيَّة وراء ما سُمِّيَ بالأخ السوفياتي الأكبر». وأشهد شخصيا أنه، عندما كان ابراهام السَّرْفَاتِي مُعْتـقَلًا سِيَاسِيًا مَـعِـي في السجن المركزي بمدينة القُنَيْطِرَة بالمغرب، في قرابة سنة 1987، عَبَّر لِي شخصيا، وَبِصَرَاحَة، عن تناقص حَمَاسِه تُجاه الصِّين (التي بدأت آنَـئِـذٍ المَزْجَ بين الاشتراكية والرأسمالية). وقال لِي السرفاتي أنه يُفَضِّل الانْحِيَاز إلى جانب الاتحاد السوفياتي، وإلى زعيمه مِيخَائِيل غُورْبَاتْشُوفْ، صاحب مشروع “البِيرِيسْتْرُويْكَا” (perestroïka). ثمّ خَابَت فيما بعد آمال السرفاتي حتى تُجَاهَ الاتحاد السوفياتي. وكان غُورْبَاتْشُوفْ قد أَطْلَقَ آنذاك هذه الحركة التَصْحِيحِيَّة، لكنه لم يستطع التَحَكُّمَ في تطوّرها، وفي نتائجها. فَتَحَوَّلت هذه “البِيرِيسْتْرُويْكَا” إلى عُنصر من بين العناصر التي سَاعَدَت على التَّعْجِيلِ بانهيار الاتحاد السوفياتي. [وفي الحقيقة، بين سنوات 1980 و 1990، كُنَّا جميعًا في “التنظيمات الماركسية اللينينية” بالمغرب، وبدون استثناء، حَائِرِين مِمَّا يجري، سواءً في الصِّين، أم في الاتحاد السوفياتي. ولم نكن ندري جيِّدًا هل التَوَجُّه السياسي كان سليمًا في الصِّين، أم في الاتحاد السوفياتي. لأننا لم نكن نتوفّر على معطيات كافية لِبَلْوَرَة موقف سياسي مُعَلَّل من أيّ منهما]. وهكذا كانت مُفَاجَآت التاريخ.

يجب أن نتـذكّر أن الاشتـراكية تختلـف عن النَزَوَات التِلْـقَائِـيَـة، أو الطَبِيـعِـيَة، المَوْجُودَة لَدَى البَشَر. وَبِـعِـبَـارَات أُخْرَى، فإنّ الاشتـراكية تَتَنَاقَضُ مع الغَرَائِز العَـفْـوِيَة المُلَاحَظَة لَدَى البَشَر. وَمُنْذُ أَنْ يُولَد الشّخض، ثمّ طِوَالَ حَيَاتِه، يَظَلّ هذا الشَّخص يُـغَـلِّبُ تَلْبِيَة مَصَالِحِه الـفَرْدِيَة، على حِسَاب خِدْمَة مَصَالِح الجَمَاعَة. بَيْنَمَا تَطْلُب الاشتـراكية من الشَّخص أن يُـغَـلِّب التَضَامُنَ المُجْتَمَـعِـي على تَلْبِيَة المَصَالِح الشَّخْصِيَة. وَإِذَا كان العَـقْـل الـفَرْدَانِي لَا يَرَى مِن وَسِيلَة مُمْـكِـنَة لِتَحْـقِـيـق المصالح الخَاصَّة سِوَى اِتِّـبَـاع مَنْهَج الْأَنَانِيَة، فإن العَـقْـل الاشتـراكي يُدْرِكُ أن أَقْـوَى طَريـقة لِإِنْجَاز المَصالح الشَّخصية هي إِعْطَاء الْأَسْبَـقِـيَـة لِإِنْجَاز المَصَالح الجَمَاعِيَة، والمُجْتَمَـعِـيَـة. وَهَـكَـذَا، فإن الانـتـقال من العَـقْـل الْأَنَانِي إلى العَـقْـل الاشتـراكي، يَحْتَاج إلى خَوْضِ حَمْلَة تَرْبَـوِيَـة مُتَوَاصِلَة على مَدَى الحَيَاة. وهدف هذه الحَمْلَة التَرْبَوِيَة هو إِعَادَة تَرْبِيَة كل المُواطِنِين، وَتَشْجِيـعِـهِم على إِعْطَاء الْأَسْبَـقِـيَـة لِلْمَصالح المُجْتَمَـعِـيَة، على حِسَاب المَصالح الشَّخْصِيَة أو الفَرْدِيَة. وَكُلّ مُجتمع اِشْتِرَاكِي تَـهَـاوَنَ في إِنْجَاز هذه الحَمْلَة التَرْبَوِيَة، فإنه سَيُـعَـرِّضُ نَـفْـسَه إلى خَطَر اِنْحِرَاف، ثُمَّ اِنْهِيَّار، الاشتـراكية، ثُمَّ تَـعْـوِيضِهَا بِالرَّأْسَمَالِيَة.

(1) َ وَرَدَت هذه المقولة في استجواب لِابْرَاهَام السَّرْفَاتِي، أجرته معه كنزة الصفريوي حول مجلة ”أنـفاس”.

(2) نشرت “منشورات التـقدم موسكو” (Edition du progrès Moscou) في سنة 1977 كتاب: “لِينِين، الثـقافة والثورة الثـقافية” (باللغة الفرنسية) (culture et révolution culturelle) جمعت فيه مقتطفات من خُطب لِينِين، وتدخّلاته، ونصوصه، المتعلّقة بالثـقافة.

9) هــل تُــجُــووِزَت الــمــاركــســيــة ؟

بعد انهيار الاتحاد السُّوفْيَاتِي في قرابة سنة 1991، تَعَبَّأَت وسائل الإعلام الرأسمالية، للتَّهْلِيل بِنَبَأ «موت الاشتراكية»، ولِلتَبْشِير بِـ «التجاوز النهائي للماركسية». وكان هذا الاِدِّعَاء مُتَوَقَّعًا، ومفهومًا، في إطار “الحرب الفكرية”، القائمة بين الرأسمالية والاشتراكية. وظهر عَدد كبير من «المُفَكِّرِين» المَأْجُورِين، أو المُرْتَزِقَة، الذين يُكَرِّرُون كالبَابَّـغَاوَات أطروحة «خطأ» الماركسية، أو «استحالة» الاشتراكية، و«الانتصار النهائي للرأسمالية على الاشتراكية». وطَرَحُوا مَـقُولَة «نِهاية التاريخ». وزعموا أن الرأسمالية ستبقى «أَبَدِيَة».

فهل فَشَلُ تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي يُثْبِتُ أن الماركسية غَدَت مُتَجاوزة؟ وهل كُلُّ حِزب جَرَّبَ بناء الاشتراكية في بلده الخاص، ثم فَشِلَ، هل يُـقْبَلْ أن يكون فشلُ تجربته حُجَّةً على خطأ النظرية الماركسية؟ وهل كان يَنْبَغِي أن تُـقَدِّم لَنَا الماركسية طَرِيقَةً مضمونةَ النَجاح في مجال بناء الاشتراكية؟ وهل مَا مَارَسَه الحزبُ الشيوعي في الاتحاد السوفياتي هو تَطْبِيق مُخلص لِمَبَادِئ الماركسية؟ وحتّى لو اِفْتَرَضْنَا جَدَلًا أن الماركسية تُوصِي بِتَنـفِيذِ طريقة مُحَدَّدة وجاهزة لِبناء الاشتراكية، فهل فَشَلُ أي حزب شيوعي في بناء الاشتراكية في بلده الخاص يعني أن الخَلَل يُوجد بالضرورة في النظرية، وليس في طريقة استعمالها؟ وفي هذه الحالة، كيف تكون العلاقات والتـفاعلات فيما بين النظرية، والفَاعِل المُطَبِّق للنظرية؟ وما هي مسؤوليات النظرية، وما هي مسؤوليات الفاعل الذي يُطَبِّق هذه النظرية؟

وقد حاول تِيَار اسْطَالِين تبسيط الماركسية (والاشتراكية)، عبر تَخْلِيصِها من مناهجها الجَدَلِيَة والنـقْدِية، وذلك لِكَيْ تُـقْدِمَ الحُشُود الغَفِيرَة على تَبَنِّي هذه الماركسية المُبَسَّطَة. لكن إذا كان تِيَار اسْطَالِين قد حوّل الماركسية إلى أَيْدِيُولُوجِية، فهذا التحويل لَا يُبْطِلُ صَلَاحِيَة النظرية الماركسية. وحتى إذا أقدم أي شخص (مثل اسْطَالِين) على اختيار نظرية مُحدّدة (مثل الماركسية) على أساس قناعاته أو تَصَوُّرَاتِه الأيديولوجية، فإن هذا الاختيار (على أساس أيديولوجي) لَا يُشَرِّعُ صَلَاحية تلك النظرية المُخْتَارَة، ولَا يُبْطِلُهَا.

وزَعَمَ بعض المُفَكِّرين أن انحرافات اسْطَالِين وأنصاره تَأْتِي مِن صُلْبِ النظرية الماركسية. وأنه يجب إِذَن التخلّص، ليس فـقط من مَنْهَج اسْطَالِين، وإنما أيضًا من الماركسية هي نـفسها ! وتُذَكِّرُنِي هذه الطريقة في التـفكير بِالأطروحة التي تَدَّعِي أن أسلحة الدَّمَار الشَّامِل، (بما فيها أسلحة القَنَابِل النَّوَوِيَة، أو الكِيمَاوِيَة، أو البَيُولُوجِيَة)، تُهدّد البشرية بالانـقراض، وأنه يجب إِذَن التَخَلُّصُ من عِلْمَيْ الفِيزِيَّاء والكِيمِيَّاء، لأن هذين العِلمين يَحْتَوِيَّان على المعارف والتـقنيات الكافية، التي تُمَكِّن من صناعة أسلحة الدَّمَار الشامل! وهذا المنهج في التـفكير هو طبعًا خاطئ.

وفِي الجزء الأوّل من هذا النَصِّ، رأينا أن مَا طَبَّـقَه الحزب الشيوعي خلال عهد اسْطَالِين في الاتحاد السوفياتي بَعِيدٌ عن الماركسية، بل يتناقض معها. وتبقى النظرية الماركسية بريئة من الأخطاء السياسية التي يمكن أن يسقط فيها كل حزب يزعم أنه يُحاول تـفْعِيل الماركسية، أو بناء الاشتراكية.

لِنتساءل الآن: مَا هي الماركسية؟ على خلاف القراءات التبسيطية، أو التأويلات “الدُّوغْمَائِيَة” (dogmatique) الماركسيةمَناهج في التـفكير، قبل أن تكون أفكارا مُحَدَّدَة. والماركسية هي مَدرسة فِكرية، وعَقْلَانِيَة،وفلسفية، وعِلْمِيَة، ونـقْدِيَة، وثورية. وتَدْرُس الماركسيةُ المُجتمعَ الرأسمالي من عِدَّة زَوَايَا (مثل الاقتصاد، والسياسة، والتاريخ، والقانون، والفكر، والفلسفة، والثـقافة، إلى آخره). وتنتـقد الماركسية المُجتمع الرأسمالي، وتُساهم في إعداد المجتمع البديل، المُتَحَرِّر من الاستغلال الرأسمالي، ومن الطَّبقات المُجتمعية المُتناقضة. ولَا تنحصر الماركسية فـقط في مجموعة من المعارف (المُتَضَمَّنَة في كُتب كارل ماركس(1) [Karl Marx]، وفي كُتب فْرِيدْرِيش اِنْجَلْزْ (Friedrich Engels)، وفي كُتب مُفَكِّرِين ماركسيين آخرين(2)). فَأَعْمَال ماركس وإنجلز هي المُنْطَلَـق، وهي الأساس النظري، وهي البوصلة، وخلـف أعمال ماركس واِنجلز، يُوجد ثُرَات عالمي هائل مُـكَوَّن من أبحاث واجتهادات العديد من الشخصيات الماركسية المختلـفة الموزّعة عبر العالم. وكلّ هذه الأعمال تستحقّ أن نطّلع عليها، وأن ندرسها. لكن جوهر الماركسية يوجد في مجموعة من المَنَاهِج العَقْلَانِية، والفَلْسَفِيَة، والعِلْمِيَة، والنـقْدِيَة. والغاية من هذه الأدوات النظرية، هي أن تُساعد المناضلين على تَحليل المُجتمع، وعلى نـقْدِه، وعلى تَـغْيِيرِه، عبر ثورة مُجتمعية. وعلى عكس «الماركسية الدُّوغْمَائِيَة»، تُكافح الماركسية الثورية ضِدَّ كل ما هو خَاطِئ، أو أَيْدِيُولُوجِي، أو عَقَائِدِي، أو قَدَاسِي، أو مُحَنَّط، أو جَامد، أو جاهل، أو ظَالم، أو مُسْتَلَب (aliéné)، أو مُسْتَبِد(3).

وتأتي قُوَّة الماركسية من جَوْدَة انْـتـقَادَاتِها، وتَحَالِيلِها، واسْتِنْتَاجَاتِهَا. فَمَا هو التَحْلِيلُ (في الماركسية)؟ وكيف نُحَلِّلُ الظواهر المُجتمعية؟ التحليل هو القيام بالعمليات التالية: 1) الانطلاق من الواقع المَلموس، بهدف العَوْدَة إلى الواقع الملموس (وليس الانطلاق من أفكار خَيَالِيَة، أو تصوّرات مُسْبَقَة). 2) إذا انطلقنا من الواقع الملموس، بمعنى إذا انطلقنا من ظَوَاهِر الأُمُور، يجب أن نُحاول الغَوْصَ داخل بَاطِنِ هذه الأمور، لِرُؤْيَة مَا يجري وراء المظاهر. 3) إِبْرَاز التَنَاقُضَات المُجتمعية التي تُحَرِّكُ الظَوَاهِرَ المُجتمعية. 4) تـفْتِيت الظَّوَاهِر المُجتمعية إلى المُكَوِّنات التي تَتَرَكَّبُ منها. 5) إبراز التـفَاعُلَات المُباشرة والغير مُباشرة، الظَّاهِرَة والخَفِيَة، الوَاعِيَة أو غَيْر الوَاعِيَة، التي تَحدث فيما بين مُجمل العناصر، أو الفاعلين، أو المُكَوِّنَات المعنية. 6) الرؤية إلى الظَوَاهِر المُجتمعية في تطوّرها التاريخي. 7) محاولة إمساك جوهر الأشياء المَدْرُوسَة، وليس الاكتـفاء بِالتَجَلِّيَات المظهرية لذلك الجوهر. 8) التَمَسُّك دَائِمًا بِالهدف الأساسي (في الماركسية) الذي هو رَدُّ الاعتبار إلى العقل، وإلى الإنسان، وتحرير الإنسان من كل القُيُود التي تَتَنَاقَضُ مع إنسانية الإنسان. 9) اعتبار الإنسان في واقعه الملموس، وفي علاقاته المُجتمعية المتناقضة. 10) الرؤية إلى الانسان كممارسة تاريخية، في صيرورته التاريخية والمُتغيّرة.

ورغم أن الماركسية كانت، ومَا زَالت، هي النظرية الأكثر تـقدُّمًا في العالم، ورغم أنها حَلَّلَت، وفسّرت، وطَوَّرَت، الكثير من القضايا النظرية، في مجالات الفلسفة، والتاريخ، والاقتصاد، والمُجتمع، فَمِنْ الطُوبَاوِيَة (utopisme) أن نطلب من الماركسية أن تُوَفِّر لنا حُلولًا جاهزة، ونهائية، ومُسبَقَة، وأَبَدِيَة، تصلح لِمُعَالَجَة كل مشاكلنا المُجتمعية. ولا تستطيع الماركسية، ولا أية نظرية أخرى، أن توفر لنا حُلُولًا نظرية كَوْنِيَة، تضمن لنا النجاح في عملية تَـغيير المُجتمع، أو في إصلاحه. ومن الطُوبَاوِيَة (utopisme) أيضًا أن نطلب من النظرية الماركسية أن تُرْشِدُنا إلى الخطوات العَمَلِيَة، التي تَضْمَنُ لنا النجاحَ، في بناء الاشتراكية. لأن النظرية (من منظور ماركسي) تَرْتَبِطُ جَدَلِيًّا بالممارسة. ولا تـقدر النظرية على أن تسبق كثيرًا الممارسة (في ميادين تاريخية جديدة مثل تشييد الاشتراكية).كما لا تستطيع النظرية أن تـفْلِتَ من أن تكون مَوْسُومَة (marqué) بِزمانها التاريخي.

وبعبارة أخرى، تُبْنَى النظرية على أساس مُمَارَسَة تاريخية محدَّدَة. ولا تتـقدَّم النظرية الثورية إلَّا إذا سَايَرَت تَـقَدُّم وتَحليل المُمارسة. والمناضلون الثوريون، المُنْخَرِطُون في الممارسة اليومية، وفي البحث العِلْمِي المُتَوَاصِل، هم المُؤَهَّلُون للاِجْتِهَاد، ولِلِإِبْدَاع، ولِاقتراح الحُلُول (النظرية والسياسية)،المُلائمة لِمُستوى تطوّر الصراع الطبقي في مُجتمعهم، ولِمُسَايِرَة ِزَمَانِهِم التاريخي. وكل مُفَكِّر يَتَجَاهل الماركسية، أو يرفض استعمالها، سيبقى يَدور في “حلقة مُفْرَغَة” (cercle vicieux) داخل إطار الرأسمالية المُفْلِسَة.

ويعرف المناضلون الماركسيون مُسبقًا أن أوضاعهم ستكون صعبة، وأن تضحياتهم ستكون قاسية، وأن تجاربهم سَتَتَعَرَّضُ، مِرَارًا وتكرارًا، للقمع، أو لِلْحِصَار، أو للإجهاض، أو للتَّصْفِيَة، أو لاحتمال الانحراف السياسي. ويُدْرِكُ الماركسيون أنهم الأقلية الثورية التي اختارت، عَن وَعْي، مُنَاصَرَة مُعَسْكَر الطبقات المُسْتَغَلَّة والمَسْحُوقة، وفضَّلَت أن تُكَرِّس حياتها لِتَهْيِئ المُسْتَغَلِّين (بِفتح حرف الغِين) والمُهَمَّشِين لاكتساب الوعي، والنـقْد، وتَهْيِيئِهِم للنضال، وإلى الانتـفاض، وإلى التَجَرُّؤ على محاولة بناء المجتمع المُتَحَرِّر من الاستغلال الرأسمالي، ومن الطبقات المُجتمعية المُتَنَاحِرَة. ولا ينتظر المناضلون الماركسيون أن يقول لهم الرأسماليون أو خُدَّامُهُم: «أنتم على حقّ، ونحن نتمنَّى لكم التوفيق في مشاريعكم».

وقد شَكَّلَت الاكتشافات، أو الإِبْدَاعَات، أو التَدْقِيقَات النظرية، التي أنتجتها الماركسية، شَكّلَت قفزةً نوعية في تاريخ مَعَارِف البشرية. (ومن بينها: نظرية أنماط الإنتاج المُتَعَاقِبَة عبر التاريخ، والمادية الجدلية، والمادية التاريخية، ونظرية فائض القيمة، والعلاقة بين قِوَى الإِنْتَاج وعَلَاقَات الإنتاج، وشرح آلِيَات الاستغلال الرأسمالي، ومفهوم التَشْكِيلَة المُجتمعية، والترابط بين البنية التَحْتِيَة والبنية الفوقية، ومحرِّك التاريخ الكَامِن في الصراع الطبقي، وأطروحة الاِسْتِلَاب، إلى آخره). ولا يمكن نُكْرَان بعض الأطروحات الماركسية، ولا تَجاهُلُها، ولو أن بعضها مَا زال نظريةً غير مُكْتَمِلَة، أو مَوْسُومَة بِزَمَانِها التاريخي.

وعلى خلاف مَا يزعمه بعض الماركسيين “الدُّوغْمَائِيِين (dogmatique)، مَا هو مطروح على المناضلين الثوريين، ليس هو الوُقُوف عند نظرية ماركس، أو تـقْدِيسُهَا، أو اعتبارها نظرية كَامِلَة،أونِهَائِيَة.وإنما المَطْرُوح هو الانطلاق من حَيْثُ وَقَـفَ ماركس، لِتَكْمِيلِه، أو لِتَطويره، أو حتى لِتَجَاوُزِه في بعض أطروحاته. فالماركسية ليست هي النِّهَايَة، وإنما هي البداية. فلا تستطيع أية نظرية، بما فيها الماركسية، أن تكون نظرية مُكْتَمِلَة، أو نِهَائِيَة، أو أبدية، أو مُطْلَـقَة. وإنما هي نظرية بَشَرِيَة، ومحكومة بزمانها التاريخي. وهذه التَارِيخَانِيَة تَنْطَبِقُ على كل مُقَوِّمَات التُرَاث الثـقَافِي للبشرية. وتنطبق حتّى على العُلُوم الدَّقِيقَة (مثل الفيزياء والكيمياء). ويَأْتِي التـقدم العِلْمِي بالضّبط من التجارب المُتَوَالِيَة، ومن تـقْيِيمِهَا، ونـقْدِهَا، وتصحيحها. كما يأتي من تَرَاكُم المعلومات، والاكتشافات، ومُرَاجَعَتِها، وتطويرها، وإغنائها، وذلك في ارتباط حَيَوِيّ بالمُمارسة الثورية.

وعلى خلال بعض الظُّنُون، فإن وظيفة النظرية الماركسية، ليست هي تَوْفِير حُلول مُكْتَمِلَة، أو جاهزة، لكل فاعل سياسي، وذلك بِغَضِّ النَظَر عن مُجتمعه، وزمانه، وميدان اشتغاله. وإنما وظيفة النظرية الماركسية تُشْبِهُ وظيفة أيّة معرفة في العُلوم الدّقيقة (مثل الفيزياء أو الكيمياء). فهي تُزَوِّدُكَ ببعض الأدوات النظرية العِلْمِيَة، لكنها لَا تَحُلُّ مَحَلَّك للقيَّام بالتحقيقات، ولَا تَنُوب عنك في تحليل المشاكل، ولَا تُعَوِّضُك في ابتكار الحُلُول الملَائِمة لهذه المشاكل، ولَا تُعْـفِيك مِن بذل الجُهود لِتَـنـفِيذِهَا.

وعلى عكس بعض التصوّرات المِثَالية، كُلّما تَـعَمَّـقْنَا في التَـفَاصِيل، وَجَدْنَا أن تاريخ بناء الاشتراكية، سواء في الاتحاد السوفياتي، أم في الصّين، أم في غيرهما، لم يكن أبدًا هَادِئًا، ومُرِيحًا، حسب خط مُسْتـقِيم، واضح، ومُسَانَد من طرف كل أعضاء الحزب الشيوعي، وقادته، وأطره، في جَوٍّ من الاِتـفَاق، أو الانسجام، أو الإجماع. على عكس ذلك، نجد أن كل هؤلاء الفاعلين السياسيين، وفي كل يوم، كانوا مضطرِّين إلى بذل مجهودات كُبرى ومُضنية. وكانت المناقشات صعبة. وكان الغُموضُ يَغلبُ الوضوحَ في فترات كثيرة. وكانت الصّراعات السياسية حَادَّة. وكانت الأساليب المُستعملة مُفَاجِئَة وقَاسِية. وبدلًا من الوضوح المُسْبَق في نظرية ماركسية جاهزة، كان الفَاعِلُ السياسي يبحث عن الحُلول، أو يُجَرّبها، أو يُعَدِّلها في مُنتصف الطريق، في جَوٍّ من التَسَاؤُلَات، والشَّك، والاِحْتِرَاس، والحِيرَة، والاكتشاف. وكان الفاعل السياسي إن أَصَابَ مَرَّةً، أَخْطَأَ مَرَّتَين أو أكثر. وكانت مَيَادِين فهم النظرية الماركسية، وتطبيقها، وتطويرها، هي نـفْسُهَا مجالَات للصراع الطبقي. والتـقدم على طريق بناء الاشتراكية يستوجب، في كل يوم، مجهودات، وتضحيات لا تنتهي. بل يتطلّب أحيانا ضحايا، مَجْهُولِين، أو مَرْمُوقِين. وبناء الاشتراكية ليس هو فقط تغيير نمط الدولة القائمة، وتغيير نمط الإنتاج، وإنما هو أيضًا خَلق مُواطن من نَوع جديد. فَلَمْ، وَلَنْ، يكون تشييد الاشتراكية نُزْهَة جماعية، سَهلة،أومُريحة.

ويجب الانتباه إلى أنه، إذا كانت النظريةُ الماركسيةُ قد طرحت، وبشكل صَريح، وشَفَّاف، الخُطوط العريضة للمشروع المُجتمعي الاشتراكي الذي تطمح إليه، فإن أنصار الرأسمالية يتهرّبون دائما من توضيح وتَدْقِيق مشروعهم المُجتمعي الرأسمالي، ولو بعد مُرور قرابة قرنين على ظهور الرأسمالية. ولماذا يتهرّب عادةً أنصار الرأسمالية من توضيح مشروعهم المُجتمعي الرأسمالي؟ لِسَبَبَيْن. أوّلًا، لأن الرأسماليين لَا يَجْرُؤُون على الإفصاح عن مشروعهم المجتمعي، حيث يُحسّون أن الرأسمالية تبقى، في عُمْقِهَا، مُضَادّة للأخلاق، ولِلْعَدل، ولِلْعَقْل. وثانيًّا، لأن الرأسماليِّين يشعرون أنهم لَا يَـقدرون دائمًا على تَنـفِيذ إراداتهم أو اختياراتهم بحرية، وإنما منطق الرأسمالية الخَفِيّ، الكامن في عمق نمط الإنتاج الرأسمالي، هو الذي يُحَدِّد إِراداتهم، واختياراتهم. وحتى إذا طرح بعض الرأسماليين مشروعًا مُجتمعيا رأسماليًّا مُفَصَّلًا، فإنهم يعجزون دائمًا على الالتزام به، ولَا يقدرون على تحقيقه في الآجال المُصَرّح بها. والجوهر المَـكْتُوم في تَصوّر الرأسماليين للمُجتمع، هو أن البشر ينـقسمون إلى «خِرْفَان» و«ذِئَاب»، وأنه يَحِقُّ «لِلذِّئَاب»أن يَسْتَـغِلُّوا «الخِرْفَان»، وأن يَسْتَخْرِجُوا منهم “فَائِضَ القِيمَة”، وأن يحتكروه، وأن يُراكموه، وأن يَسْتَثْمِرُونه طبقا لمصالحهم الأنانية الخُصوصية. وهَوَسُ مُجمل الرأسماليين هو إنتاج الرِّبح، أو المال، ومُضَاعَفَتِه، ومُرَاكَمَتِه، بِلَا توقّف، ولو كانت مُضَاعَفَة المال تَحدث عبر الإضرار بِالبشر، وعبر تـفـقير الكَادِحِين، وعبر تخريب الطبيعة. هذا هو الجوهر الخَفِيُّ في نظرية الرأسمالية.

ويطلب دَائِمًا الرأسماليون مِن الشعب أن يَـعتمد بشكل كُلِّيٍٍ، وأَعْمَى، على آلِيَات نَمَطِ الإِنْتَاج الرأسمالي. ويطلب الرأسماليون مِن الشعب أن يتركَ السُّوقَ تُـنَظِّمُ النشاطَ الاقتصادي. والغاية من مطالبة الرأسماليين بِتـقْلِيص أدوار الدولة إلى أدنى حَدٍّ ممكن، هو إِفْلَات الرأسمال من المُرَاقَبَة، ومن المُحَاسَبَة، ومن حُكم القوانين القائمة. والنتيجة المألوفة لِتـقْليص تدخّل الدولة، هي تَعْمِيق الاستغلال الرأسمالي، وهضم حقوق المأجورين المُشَغَّلِين، واستـفحال الفقر، وتـفَاقُم الفوارق الطبقية، وتحطيم البيئة، وانحطاط المُجتمع. ومهما قال الرأسماليون، فإن المبادرات الرأسمالية الخُصُوصِيَة لَا تـقدر على تلبية مُجْمَل حاجيات المُجتمع الأساسية. وإذا لم تتدخل الدولة بقوة، لِإِنْجَاز كل ما يَتَهَرَّبُ منه الرأسماليون الخُصُوصيّون، تحدث في المُجتمع اختلالات، أو احتكارات، أو أزمات، أو حُرُوب. ويطلب الرأسماليون من الشعب الاعتمادَ على «المبادرة الاقتصادية الحُرَّة»، وعلى «حُرِّيَة السُّوق»، و«حُرّية المنافسة»، إلى آخره. لكن هذه الآلِيَات تَنْحَرِف، أو تـفْشِل، إذا لم تـفْرِض عليها الدولة الاشتغال في نطاق حُدُود قانونية مُعَيَّنَة. والمَأْسَاة التي تَتَكَرَّر في الرأسمالية، هي أن “فِرَق الضَّغْط” (lobbies) الرأسمالية تَنْجَحُ دائمًا، وفي آخر المطاف، في السيطرة على دَوَالِيب الدولة. بل تُسَخِّرُ “فرق الضَّغْط” الدولةَ لخدمة الأغراض الأنانية الضَيِّقة لِتلك الفئات المُسْتَغِلَّة الكُبرى، وذلك على حِسَاب مصالح عامّة الشعب الكادح.

وَتُنَاهِضُ الرأسماليةُ الماركسيةَ، وتُحَارِبُ الاشتراكيةَ، بِمَنْطِق القُوَّة، وليس بِقُوَّةالمَنطق. وتعتمد الرأسماليةُ على تجهيل الشعب، وعلى إخضاعه لِدِعَايَة مُكَثَّفَة. وتستعملُ الرأسماليةُ النـفاقَ، والخِدَاعَ، والقمعَ، والتصفيات. ولا تلتزم الرأسماليةُ لَا بالقانون، ولَا بالأخلاق. ونتذكّر هنا العديد من المؤامرات، والاغتيالات، والحروب، والحِصَارَات، التي فَرَضَتها الإمبريالية على كل البلدان، وعلى كل الأنظمة السياسية، وعلى كلّ الحركات الثورية، التي حاولت اِتِّبَاع اخْتِيَارَات «اشتراكية». ومن بين هذه البلدان الضحايا: الاتحاد السوفياتي، وحُلَفَائِه في حِلْفِ ”وَارْسُو“، والصِّين، وفِيتْنَامْ، وكُورْيَا الشَمالية، وكُوبَا، وبلدان متعدِّدَة في أمريكا اللَّاتِينِيَة، وافريقيا، وآسيا، إلى آخره. وتاريخ العالم الحديث هو كلّه تاريخ قهر استعماري وإمبريالي. ويُعَدُّ إجمالي ضحايا المؤامرات والحروب الرأسمالية في العالم بمئات الملايين من البشر. وهو ما يَتَنَاسَاه دائمًا أنصار الرأسمالية.

ومنذ قرابة سنة 1945 (أي منذ نهاية «الحرب العالمية الثانية»)، وإلى حدود اليوم في سنة 2018، تَوَالَت عِدَّة حُكُومات في بلدان ”العالم الثالث“ (في افريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية). وكانت هذه الحكومات تُحَاوِلُ إخراج بلدانها من التخلّف، ومن التَبَعِيَة للإمبريالية، عبر اِتِّبَاع قَوَاعِد النظام الرأسمالي. ونتيجة ذلك، بعد مُحاولات دامت قرابة 70 عامًا، هي أن ”بلدان العالم الثالث“ مَا زَالَت تَتَخَبَّط في التخلّف المُجتمعي الشَّامل. وتُعَانِي من الفقر، والجهل، والاستبداد، والفساد، والضعف، والدُّيُون، والتَبَعِيَة للإمبريالية، إلى آخره. وعلى عكس بعض الظّنون، فَإِنّ تَكَاثُرَ العِمارات، والسيارات، والتَلْفَزَات، والهواتـف، وما شابهها، في المُدُن الكبيرة لِـ ”بلدان العالم الثالث“، ليس حُجَّة على خروج هذه البلدان من التخلّف، وارتـقاءها إلى مستوى التـقَدُّم، أو التَحَرُّر. وإنما الخَلَاص من التخلّف يعني استرجاع سيادة الشعب الوطنية الحَقَّة، وتغيير المُجتمع، وتثويره، لكي يُصبح قادرًا، هو بنـفسه، على تَلْبِيَة معظم حاجِيَاته، على مستويات البنيات التحتية، والإنتاج الفلاحي، والاقتصادي، والعِلْمِي، والتكنولوجي، والثـقافي، في إطار دولة العدل، أو دولة الحقّ والقانون.

وحينما ندرس الأزمات المتنوّعة التي تتكرّر في النظام الرأسمالي، نجد أن سببها الأساسي يَكْمُنُ في اعتماد الرأسمالية على مُحَرِّك الأنانية الفردية(4) لدى الفاعل الرأسمالي. فلا يَهْتَمُّ الفاعل الرأسمالي سوى بِجَنْيِ الرِّبْح الشخصي، ولو عبر سحق المأجورين، أو عبر الإضرار بالمُجتمع، أو تخريب البيئة. بينما كان ينبغي أن يؤدي الطابع المُشترك للحياة في المُجتمع إلى تـفضيل، أو تَغْلِيب، الاعتماد على مُحَرِّك التضامن(5) المُجتمعي لَدَى الفاعل الاقتصادي. وحينما نربط الأزمات المُتكرّرة في الرأسمالية بِِخُصوصيات نَمَط الإنتاج الرأسمالي، يُمكن أن نُدرك أنه لا يُوجد حل جَذْرِي، أو مَضمون، لهذه الأزمات، إلاّ عبر إخراج البشرية من نَمَط الإنتاج الرأسمالي.

وحينما نَـفحص الإصلاحات الكبرى التي تـقترحها بعض الجهات المُسَخَّرة لخدمة الطبقات السّائدة، بُغْيَةَ تـقليص بعض النتائج السلبية الموجودة في النظام الرأسمالي، نجد أنها تـقترح علينا مثلًا استراتيجية توزيع الصدقات على المُعْوِزِين، أو سياسة «التَكَفُّل بالفقراء والمُحْتَاجِين»، أو «العناية بالبيئة» (écologie)، أو استراتيجية «التنمية المُستدامة» (développement durable)، إلى آخره. ويمكن أن نُدرك المَأزق الذي تَتخبّط فيه مثل هذه الأطروحات. لأن كلَّ واحدة من هذه الأطروحات تـفكر في جانب جزئي، ومحدود، من إشكالات المجتمع. وَتَبْـقَى الحلول التي تـقترحها خاضعة لِمَنْطِق الرأسمالية. ولا تـقدر هذه الإصلاحات على مُعالجة مشاكل المُجتمع في شُموليتها. فيكون مآلها، في آخر المَطَاف، هو الفشل.

وفي مثل هذه اللحظات من التّأمّل، يحسّ الشخص الباحث فورًا بالأهمية الحاسمة للنظرية الماركسية. لأن الماركسية هي بالضّبط النظرية الوحيدة التي تُحَلِّلُ المجتمعَ في شموليته (دون الفصل بين الإشكالات السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والإشكالات الأخرى البيئية، أو الثـقافية، أو النـفسية). والماركسية هي النظرية الوحيدة التي تَـتَجَرَّأُ على تَحْدِيد أصل الداء في «التناقض بين الطَّابع المُجتمعي للإنتاج، والطَّابع الخُصُوصِي لِتَمَلُّك وَسَائل الإنتاج». وتُشَخِّصُ الماركسية الأسباب العميقة في نمط الإنتاج الرأسمالي، وتـقدِّم وَصْفَة العلاج في التخلّص منه.

فما دام هناك نظام مجتمعي مبني على أساس «استغلال الإنسان من طرف الإنسان»، وعلى أساس «التملّك الخاص لوسائل الإنتاج المُجتمعية»، وعلى أساس هيمنة «القِيم الأنانية» بدلًا من «قِيم التَـضَامُن المُجتمعي»، فإن هذا النظام المجتمعي سيبقى حتمًا غير عَادل، وغَير عَقلاني، ومُخَرِّبا للبيئة. وسَيَبْـقَى يُعِيدُ إِنْتَاج الفقر، والجهل، والفوارق الطبقية المُستدامة. ويمكن هنا أن نَلمس أن النظرية الماركسية، ولو بنواقصها المُـفْتَرَضَة، هي الوحيدة التي تـقترح تحليلا شُموليا للمجتمع، وتطرح بُنُود استراتيجية (ولو غير مُكْتَمِلَة) لِتَحرير البشرية من الاستغلال، ومن الفقر، والجهل، ومن تخريب البيئة.

فالعُنْصُر الذي فَشِلَ في حدث انهيار الاتحاد السوفياتي، ليس هو الماركسية، وإنما هو غياب الاِسْتِرْشَاد الصحيح بِالماركسية الثورية.

(1) أبرز كتب كارل ماركس هي: من أجل نـقد فلسفة القانون لدى هيجل (صدر في سنة 1843)؛ مخطوطات 1844؛ الأيديولوجية الألمانية (صدر في سنة 1845، وهو كتاب مُشترك مع فْرِيدْرِيشْ إِنْجَلْزْ)؛ بيان الحزب الشيوعي (1848، مع إنجلز)؛ الرَّأْسَمَال (1867)؛ الحرب الأهلية في فرنسا (1871)، الخ. وهي كلها موجودة على الأنترنيت، وبعدة لُغَات. وتُوجد مكتبة رَقْمِيَة على الأنترنيت، يمكن العُثُور فيها على نصوص الكثيرين من الكتاب الماركسيين، وبِلُغَات مختلفة، وهي: [Marxists.org [archive] Archive internet des marxistes].

(2) ذكر موقع المَوْسُوعَة “فِيكِيبِدًيَا” (Wikipedia) لَائِحَة جزئية لِلْمُفَكِّرِين الذين يعتبرون أنـفسهم ماركسيين، ومنهم: Louis Althusser, August Bebel, Walter Benjamin, Daniel Bensaïd, Pierre Bourdieu, Bertolt Brecht, Nikolaï Boukharine, Cornelius Castoriadis, Hô Chi-Minh, Guy Debord, Isaac Deutscher, Jacques Ellul, Friedrich Engels, Herman Gorter, André Gorz, Antonio Gramsci, Henryk Grossmann, Che Guevara, David Harvey, Michel Henry, Rudolf Hilferding, Anselm Jappe, Leo Jogiches, Karl Kautsky, Alexandra Kollontaï, Karl Korsch, Robert Kurz, Paul Lafargue, Henri Lefebvre, Vladimir Ilitch Lénine, Abraham Léon, Karl Liebknecht, Georg Lukács, Rosa Luxemburg, Mao Ze-Dong, Herbert Marcuse, Paul Mattick, Ernest Mandel, Anton Pannekoek, Kostas Papaïoannou, Gueorgui Plekhanov, Nicos Poulantzas, Gueorgui Plekhanov, Moishe Postone, Isaak Roubine, Maximilien Rubel, Alfred Schmidt, Georges Sorel, Josef Staline, Léon Trotski, Raoul Vaneigem, Nildo Viana, Jean-Marie Vincent, Clara Zetkin. وَذَكَر غَازِي الصُورَانِي (في أحد مقالاته) الْـلَّائِحَة التَالِيَة من المُـفَكِّرِين المَاركسيِّين العرب : فؤاد مرسي، ومحمود أمين العالم، ومهدي عامل، وسمير أمين، واسماعيل صبري عبدالله، ومحمد إبراهيم نقد، والشفيع احمد الشيخ، وعبد الخالق محجوب، ويوسف سلمان فهد، وعبد الفتاح إسماعيل، وجورج حبش، وفالح عبد الجبار، وهادي العلوي، وميشيل كامل، وطاهر عبد الحكيم، وحسين مروه، والطيب تيزيني، وصادق العظم، وإلياس مرقص، وعزيز بلال، وابراهام السرفاتي، واحمد صادق سعد، وعبد الغفار شكر، وجلبير أشقر، وفوزي منصور، وهشام غصيب، وماهر الشريف، وعبد الباسط عبد المعطي، وعبد الله العروي، وياسين الحافظ، وهشام جعيط، وسلامة كيلة، وموفق محادين، وناهض حتـر، وسعيد بن سعيد العلوي، وفيصل دراج، ومحمد دكروب، وجورج طرابيشي، وفواز طرابلسي، وأنور عبد الملك، وغيرهم.

(3) من أحسن ما نشره المناضل المغربي عبد السلام الموذن، مقاله تحت عنوان: “ثورة ماركس في نظرية المعرفة”. ويعرض فيه تاريخ صَيْرُورَة تَكَوُّن النظرية الماركسية. وهو فصل مأخوذ من كتابه: “الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية”، نَشْرُ “عيون المقالات”، الدار البيضاء، الطبعة الأولى في سنة 1990، الصفحة من 93 إلى 143. ورابطه هو (https://www.marxists.org/arabic/).

(4) L’égoïsme individuel comme moteur de l’activité économique.

(5) La solidarité comme moteur de l’activité économique.

10) مــن هـو مُؤَهَّــل لـلحُـكْــمِ عـلـى الــماركــســيــة ؟

لِنـفترض أنني سَطْحِي، أو بَليد، بمعنى ضعيف الذكاء، كيف يُمكنني في هذه الحالة أن أَعِيَ أن النظرية الماركسية مُفيدة، أم ضَارَّة؟ هذا غير ممكن. وإذا كانت ثـقافتي هَزِيلَة، وتكويني رَدِيء، وتعليمي ضعيف، فهل سيكون بمقدوري أن أُبَلْوِرَ موقـفًا معقولًا من الماركسية؟ هذا غير ممكن. وإذا كنتُ سَاذَجًا (naïf)، وإذا كانت “اللُّوبِيَّات” (lobbys) الرأسمالية، أو “العِصَابات” المُهَيْمِنَة على المُجتمع، تتلاعب بِعَـقْلِي، وبِتَكْوِيني المدرسي، والثـقافي، وتُلَوِّثُ دِمَاغِي بِدِعَايات مُغْرِضَة، فَهَل سيكون بِمُسْتَطَاعي أن أفهم أن النظرية الماركسية هي سِلاح نظري ضروري، لتحقيق تَحَرُّرِي السياسي، والاقتصادي؟ هذا غير ممكن. وحتّى إذا كان ذَكَائِي جيِّدًا، وتكويني التعليمي حَسَنًا، لكنني لم أبذل خلال حياتي كُلِّهَا مجهودا شخصيا كافيا لِلْاِطِّلَاع على النظرية الماركسية، ولِاكْتِشَاف مناهجها، فَكَيْفَ يمكنني أن أعرفها، أو أن أحكم عليها؟ هذا غير ممكن.

وتلك هي بالضَّبْط شُروط التَّأهِيل للحُكم على النظرية الماركسية.

وكثير من المواطنين يَـكْتَـفُون بِتَرْدِيد ما يسمعونه، فَيَزْعَمُون، هم أيضًا، أن «النظرية الماركسية هي مُجرّد أوهام». ويُـكَرِّرُون أن «الاشتراكية هي مُجرّد كذبة، وأنها مستحيلة التحقيق»(1). وإذا طرحنا عليهم أسئلة دقيقة، نلاحظ أنهم لَا يعرفون لَا «الماركسية»، ولَا «الاشتراكية»، ولَا «الرأسمالية»، ولَا عِلْم المُجتمع (السُوسْيُولُوجِية)، ولا التاريخ، ولا الاقتصاد، ولا الفلسفة، ولا المَنطق، ولا فلسفة القانون. بل لا يعرف هؤلاء المواطنين أنهم يجهلون هذه المسائل. ورغم ذلك، تراهم يُصْدِرُون الأحكام المُسْبَقَة على مَا يَجْهَلُون، وهم وَاثـقُون من أنـفسهم. فَيَا لَهُ من غُرُور !

وأُسُـسُ التـعامل مع الماركسية اِثْنَتَان رئيسيتان: إِمَّا أن نكون طرفًا مُستـفيدًا من النظام الرأسمالي، فنعادي الماركسية. وإمَّا أن نكون ضحية لهذا النظام الرأسمالي، فنميل إلى مناصرة الاشتراكية.

(1) أنظر مقال رحمان النوضة: «نـقد أنصار الرأسمالية»، وهو موجود على مُدَوَّنَتِه.

11) هــل الــمــاركــســيــة أيــديــولــوجــيــة ؟

خلال قرابة سنوات 1968، كُنَّا نُناضل في إطار “الحزب الشيوعي المغربي”. ولمّا اشتدّ القمع والترَهِيب على هذا الحزب، من طرف الملك المُستبدّ الحسن الثاني، دخلتْ قيادة هذا الحزب في سياسات تدريجية اِسْتِسْلَامِيَة، ثم تراجُعية. فانسحبنا جماعيا من هذا الحزب. وانسحب كذلك مناضلون ثوريون من “حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”. ثم أسَّـسَ المنسحبون تنظيمات ثورية، سرّية، «ماركسية لينينية» (وهي “منظمة إلى الأمام”، و”منظمة 23 مارس”، و”منظمة لنخدم الشعب”).

ولم نكن آنذاك نُدرك أن مَا سُمّي ب «النظرية المَارْكِسِيَة الْلِّينِينِيَة»، ليست هي الصِّيغَة الأصلية الوَفِيَة لِأُطْرُوحَات كَارْل مَارْكِسْ، وافْرِيدْرِيشْ إِنْجَلزْ، وفْلَادِيمِيرْ لِينِينْ، وإنما هي آراء وتأوِيلَات تِيَار جُوزِيف اسْطَالِين ومُعاونيه. ولم نكن نعرف آنذاك أن مناهج وممارسات جوزِيف اسْطَالِين ومن معه، تختلف جَذْرِيًّا عن مناهج كارل ماركس.

زِيَادَةً على ذلك، كنّا نظنّ أن «الفكر الماركسي اللينيني» هو فكر سياسي نَاضِج، شامل، مُكْتَمِل، وجاهز للتطبيق النَّاجِح والأكيد. فحوّلناه بسرعة، ودون أن نعي ذلك، إلى ما يشبه “أَيْدِيُولُوجِيَة” من نوع جديد. ومن الممكن أن يكون البعض منّا مَا زال يتعامل مع «الفكر الماركسي اللينيني» كَـ “أَيْدِيُولُوجِيَة” من نوع جديد. ومن بين نتائج ذلك التصوّر، أننا لم نتجرّأ على تطوير هذا «الفكر الماركسي اللينيني»، ولم نستطع تغيير المجتمع، ولم ننجح في مشاريعنا السياسية الأَصْلِيَة.

وَبعد “انهيّأر الاتحاد السُّوفياتي”، أَذَاعَت وسائل الإعلام الرأسمالية والإمبريالية، المُهيمنة عَالَمِيًّا، أَذَاعَت هذه «الحقائـقَ» الجديدة المنتصرة: «الماركسية خاطئة»، و«الاشتراكية هي مُجرّد يُوتُوبْيَا»، و «الرأسمالية هي النموذج الاجتماعي الأبدي الوحيد القابل للحياة»! و”الخُطَبَاءُ” (الذين يرفضون الاعتراف بكونهم “دُعَاة”) يعلنون: «الماركسية، والاشتراكية، وكل هذه الأشياء، هي مجرد أَيْدِيُولُوجْيَا»! لكن هؤلاء “المُتكَلِّمِين” لا يُدْرِكُون أنهم هم أنفسهم غارقون في “الأَيْدِيُولُوجْيَا”. وَكَمَا أوضح لْوِيس أَلْتُوسِير(Louis Althusser) : «أولئك الذين هم في الأَيْدِيُولُوجْيَا يَظُنُّون أنهم يَتَمَوْقَعُون بِالضَّرُورة خارج الأيديولوجيا. (…) والأيديولوجيا لا تـقول أبدًا “أنا أَيْدِيُولُوجِي”. (…) نحن نعلم جيدًا أن الاتهام بالتَوَاجُد في الأَيْدِيُولُوجْيَا لا يَنْطَبِقُ أَبَدًا سِوَى على الآخرين، وليس على المُتَـكَلِِّم هو نفسه (ما لم يكن هذا المُتَكَلِّمُ سْبِينُوزِيًّا، أو مَارَكْسِيًا حقاً»(1).

مَا هي الأَيْدِيُولُوجِيَة؟ يُمْكِنُ أن نُـعَرِّفَ الأيديولوجية بِكَوْنِها: مَنْظُومَة من الأفكار، أو الأحكام، أو الاختيارات، التي لا تَنْطَلِق من الواقع المَحْسُوس، ولا تُسْتَخْرَج من التجارب البَشَرِيَة المَلْمُوسَة، وإنما تكون جاهزة، ومُسْبَـقَة، وَمُتَوَارَثَة عبر التـقَالِيد، أو المُعتـقدات، أو التَّلْـقِين، أو الدِّعَايَة. وتُسْتَعْمَل “الأيديولوجية” كوسيلة لمعرفة الواقع، أو لِتـفْسِيره، أو لِتحليله، لكن عبر رُؤْيَة مُسْبَـقَة، وغير عَقلانية، أو عَبْرَ مِصْفَاة (أو فِيلْتَرْ، filtre) غير عِلْمِية. وَمِيزَة “الأيديولوجية” هي أنها لا تُخْضِع عَلَاقَتَهَا بالواقع إلى العَقْل، وإلى النَّـقْد، وإلى العِلْم. ويمكن أن تُوجد “الأيديولوجية” في مجالات السياسة، أو الاقتصاد، أو الدِّين، أو القانون، أو الثـقافة، إلى آخره.

وأكبر المُنْتِجِين للأيديولوجية في المُجتمع هم : السُّلطة السياسية، والهَيْئَات الدِّينِيَة، والعائلة، والمدرسة، والجامعة، ووسائل الإعلام، والقوى السياسية، والفاعلين الفَنِيِّين، إلى آخره.

فالطبقات المُسْتَـغِلَّة، أو السَّائدة، هي التي تُنْتِج الأيديولوجيات، لِتَبْرِير انـقسام المُجتمع إلى طبقات مُجتمعية، وَلِتخدِير عُقُول المُسْتَغَلِّين، ولِتَسهِيل إِخْضَاعِهم، ولِإِدَامَة طَاعَتِهم، واسْتِـغْلَالِهِم. وغالبًا ما تحتاج الأنظمة السياسية المُسْتَبِدَّة، أو الدِّينية، أو الاقتصادية، أو الثـقافية، إلى ترويج، وتَلْقِين، وترسيخ، “الأيديولوجيات”، بهدف تبرير هَيْمَنَتِها، أو لِتَـعْلِيلِ امتيازاتها، أو لِإِضْفَاء الشرعية على أنشطتها، أو لإعطاء قِيمَة عُلْيَا لِسُلُوكِيَّاتها، أو لإخفاء استبدَادها، أو لِتَمْوِيهِ فَسَادِهَا. والأيديولوجية السّائدة في المُجتمع، هي عُمُومًا أيديولوجية الطبقة السَّائِدَة. ودور الأيديولوجية السائدة هو أنها تُصَوِّرُ المصالحَ الأنانية للطبقة السائدة على أنها المَصَالِحَة المُشتركة لكل المجتمع.

وفي معظم الحالات، يُرَدِّد تِلْقَائِيًّا المَسُودُون، والمُسْتَغَلُّون، الأيديولوجيات السَّائدة في المُجتمع، دون أن يُدْرِكُوا مَصْدَرَها، ودون أن يَحِسُّوا أنها مُنَاقِضَة لِلعقل، ولِلْوَاقِع، ودون أن يَعُوا أنها تَضُرُّ بمصالحهم الطبقية. وتكون الأيديولوجيات منتشرة في مجمل مَوَاقِع المجتمع الطبقي، لكنها تبقى عُمومًا غير مَحْسُوسَة من طرف مُسْتَـعْمِلِيها.

هل الماركسية أَيْدِيُلُوجِيَة؟ البعض من بين أنصار الاشتراكية يتعاملون مع نظرية الماركسية كَـأَيِدِيُولُوجِيَة (أي كَفِكْر مُحَنَّط، وغير مُتـفَاعِل مع الواقع الحَي). لكن الماركسية بريئة من هذا السُّلوك غير العِلْمِي. لأن الماركسية نَشَأت، ونَمَتْ، بالضَّبْط عبر نـقْد، ومحاربة، مختلف الأيديولوجيات، في ميادين الفلسفة، والتاريخ، والاقتصاد، وعِلْم المُجتمع، والسياسة، إلى آخره. وميزة الماركسية (التي تُبِعِدُها عن الأَيْدِيُولُوجِيَة)، هي بالضّبط حِرصُها المُتَوَاصِل على الانطلاق من الواقع المَادِّي المَلْمُوس، وليس من المُعْتـقَدات، أو من المُقَدَّسَات.

والأشخاص الذين يطلبون من النظرية الماركسية أن تكون صحيحة، وفَعَّالة، وناجحة، في جميع تـفاصيلها، وبشكل مُطْلَق، وكُلِّي، ونِهَائِي، وفي جميع الميادين، لا يُدْرِكُ هؤلاء الأشخاص، أنهم هكذا، يطلبون من هذه النظرية الماركسية أن تكون بالضّبط مثل الأيديولوجية“.

وعلى خلاف الأيديولوجيات، والنظريات المِثَالِيَة، لا تـقول الماركسية إن الفكر هو الذي يسبق المَادَّة، أو يُحَدِّدها، بل على عكس ذلك، تـقول الماركسية إن المادّة هي التي تسبق الفكر، وهي التي تُحدِّده.

وتزعم الأيديولوجيات أن تاريخ المُجتمع هو تاريخ وِئَام، وإجماع، وتآزر، ووَطَنِيَة، أو قَوْمِيَة مُتضامنة، إلى آخره. بينما تـقول الماركسية أن تاريخ المُجتمع هو تاريخ صِرَاع بين طَبَقَات مُجْتَمَعِيَة. ولا تَدَّعِي الماركسية أنها مُحَايِدَة، بَلْ تُعْلِن الماركسيةُ عَلَنِيَةً انحيازها إلى جانب المُسْتَغَلِّين، والمُضْطَهَدِين.

وإذا كانت الأيديولوجيات تَتَعَالَى على الزمان التاريخي الذي نشأت فيه، وتُعْلِنُ نـفْسَهَا حَـقَائِـقَ مُـكْتَمِلَة، ومُطْلَقَة، وَأَبَدِيَة، فإن النظريات الماركسية(مثلها مثل النظريات العِلمية)، تعترف بِنِسْبِيَتِهَا، وبارتباطها بِـزَمان تاريخي مُحدّد، وَتَـقْبَل بأن تَخضع لِلنِّـقَاش، ولِلمُرَاجَعَة، ولِلنَّـقْد، ولِلتَّطْوِير، ولِلْإِغْنَاء. وإذا كانت الأيديولوجيات لا تـقبل الاعتراف بإمكانية خطئها، فإن النظريات الماركسية تعترف بإمكانية خطإ بعض أطروحاتها. ولِإِثْبَات خطإ أحد أطروحات الماركسية، يكفي تـقديم الحُجَج العِلْمِيَة الكافية لكي يقبل الماركسيون هذا النـقد.

وترفض الأيديولوجيات إخضاع مزاعمها للعُلوم الدَّقِيقَة. بينما تبقى الماركسية مُنْـفَتِحَة على العُلوم الدَّقِيقَة، وتـقبل التـفَاعُلَ الخَلَّاق والنَـقْدِي معها.

ويَمِيلُ الماركسيون السَطْحِيُّون بسهولة إلى تحويل الماركسية إلى عَقِيدة جَامِدَة. فَنـقول للماركسيين “الدُّوغْمَائِيِّين” (dogmatique)، إذا اعتبرنا أن النظرية الماركسية كلّها صحيحة، ومُنْتَهِيَة، وأبدية، فهذا الموقف سيعني أننا نتعامل مع النظرية الماركسية كأنها نَصٌّ دِيني، مُنَزَّل، ومُطْلَق، ومُقدّس، وغير قابل للمراجعة، وغير خاضع للنـقد، أو للتطوير. وهذا التصوّر سيكون غير جَدَلِي. بل سيكون مُنَاقِضًا للنظرية الماركسية هي نـفسها. لأنه يُحول الماركسية، من دون وعي، إلى أيديولوجية.

(1) Louis Althusser, “Idéologie et appareils idéologiques d’État”, Les Éditions sociales, Paris, 1976, p.50.

12) هــل الــمــاركــســيــة عِــلــمٌ دَقِــيــقٌ ؟

سبق لِـ طُوماس هُوكْسْلِي (Thomas Huxley) أن كَتَب : «يَـكْـتَسِبُ العَـقْل العِلْمِي قِيمَةً أكبر مِن قِيمة مُنتجاته… وَجَوهر التَـفْـكِير العِلْمِـي، هو مُمَارَسَة التَـفْـكِير النَّـقْدِي»(1). وَفِيمَا يَـخُصُّ المَارْكِسِية، يُمـكن أن نُـعِـيـدَ صِيَّاغَة فِـكْـرَة طُومَاس هُوكْسْلِي بِالعبارة التالية : “يَـكْتَسِبُ الـفكر الماركسي أَهَمِّيَة أكبر مِن قِيمَة مُنْتَجَاتِه… وجوهر التَـفْـكِير الماركسي، هو ممارسة التَـفْـكير النَّـقْدِي”. وما هو هذا الإنـتاج الـقَـيِّـم الذي أَنْتَجَتْه الماركسية ؟ إنه إِنْتَاج نَـقْد دَقِيـق، شُمُولي وَمُـفَصَّل، لِنَمَط الْإِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي. وَلَوْ أن هذا التَحْلِيل النَّـقْدِي الماركسي يحتاج إلى تَحْيِينَات، واجْتِهَادَات، واقتـراحات مُجَدِّدَة. وَبَـعْد مُرُور أكثر مِن قَرْن على موت كارل ماركس، مَا زَال الـفِـكر الماركسي هو سِلَاحُنَا الأساسي لِتَحْلِيل وَنَـقْد مُجتمعاتـنا الرَّأْسَمَالِيَة المَأْزُومَة.

وعلى خلاف بعض الظنون، الإشكاليات التي تهمّ الماركسية، لا تُوجد في نظريات فِكْرِيَة، أو مُجَرَّدَة، وإنما توجد في الواقع المُجتمعي الحيّ، أي في الممارسة المُجتمعية للبشر. إنها إشكالية تَحَرُّر شُعوب، ليس فقط من الاستـعمار، ومِن هيمنة الإمبريالية، ومن الاستغلال الرأسمالي، ومن الاستبداد السياسي، ومن التَخَلُّف المُجتمعي، ولكن أيضًا من الاِسْتِلَاب (aliénation). وَلُبُّ الماركسية، ليس هو نظرية لوصف الأشياء، وإنما هو نـظرية لِتَهْيِئ الثورة المُجتمعية، وإنجاحها، أي تَـغْيِير وَتَثْوِير المُجتمع(2). وقد كتب كارل ماركس هو نـفسه أنه إذا أردتَ أن تُثْبِتَ صحة أفكارك، يلزمك أن تُثبتَها في الميدان، أي في المُمَارسة العَمَلِيَة، وليس في تَصَوُّرات نَظرية أو خَيالية(3).

وفي المُجتمع الرأسمالي، تسمح الطبقة السائدة للجامعات، ولمراكز البحث العلمي، وللعلماء، بأن يَدْرُسُوا كل الميادين التي تهمّهم، باستثناء ميدان واحد يبقى مَكْرُوهًا، أو مُحَرَّمًا، أو شِبْهَ ممنوع، هو دراسة المُجتمع بمنهج ماركسي. بينما دراسة المُجتمع بمناهج “برجوازية”، أو “رَأْسَمَالِيَة”، تَبْـقَـى مُباحة. لأن الطبقة السائدة تُدْرِكُ مُسبقًا أن دراسة المُجتمع بِمَنْهَج ماركسي، ستـؤدي إلى إنتاج معارف ونظريات تَـفْضَحُ تَنَاقُضَات المُجتمع، وتَنْتَـقِدُها، وتَحُثُّ على تَثْوِيرِ المُجتمع. وهو ما لا تسمح به الطبقة الرأسمالية السائدة. فالماركسية هي من بين المدارس الفكرية النادرة التي تُرَكِّز على دراسة المُجتمع، وَتَعْرِيَة تَنَاقُضَاته، ومَظَالِمِه، وتَدْعُو إلى عَقْلَنَتَه.

هل الماركسية عِلْم دَقِيق (science exacte)؟ ليست الماركسية علمًا دقيقا بالمعنى الكلاسيكي، مثلما هو حَالُ الفيزياء، أو الكيمياء، أو مَا شَابَهَهُمَا. لأن الماركسية لا تدرس أجسامًا جامدة (مثلما هو الحال في الفِيزِيَاء أو الكِيمياء)، وإنما تدرس الماركسية على الخصوص المُجتمعات البشرية كَأَجِْسَام حَيَّة، وَمُتَنَاقِضة، ومُتَطَوِّرة، تحت تأثير فَاعِلِين مُجْتَمَعِيِّين مُتَعَدِّدِين، يَتَغَيَّرُون هم أنـفسهم،وَيَتـفَاعَلُون فِيمَا بَيْنَهُم، ويَتَكَامَلُون، وَيَتَصَارعون، ويتناقضون. فَالماركسية هي عِلْم من نوع خاص. وتُشبه الماركسيةُ ”عِلْمَ المُجتمع“ (sociologie)، دُون أن تَتَطَابَقَ مَعه. ولا تستطيع الماركسية القيام بِتَجَارِب مُجتمعية قَابلة لِلتِّـكْرَار، ولِلْمُضَاعَفَة (مثلما هو مُمْكِنٌ في الفيزياء، أو الكيمياء)، لِكَيْ تَخْتَبِرَ أطروحاتها، أو لِـكَـيْ تَتَـأَكَّـدَ من صحّتها. فمثلا الثورة الفرنسية التي حدثت في سنة 1789، أو كُمُونَة باريس في سنة 1871، أو الثورة البلشفية في روسيا في سنة 1917، درسها المُنَظِّرُون الماركسيون، واستنتجوا منها دروسًا وقوانين نظرية. لكن هَاتِـهِ الثورات هي ثورات فريدة من نوعها، ولا يمكن تِكْرَارُهَا بهدف التأكّد من مَدَى صحة الدُرُوس، أو القوانين، أو النظريات الماركسية، المُسْتَنْتَجَة منها. وتستـفيد الماركسية من مُجمل العُلوم الدَّقيقة، ومن مُجمل التُرَاث الثـقافي للبشرية (بما فيها الفلسفة، والتاريخ، والاقتصاد، وغيرها)، دون الوقوف عند الفَوَاصِل التَخَصُّصِيَة الموضوعة فيما بين هذه المَوَادّ.

وإذا اِتـفَـقْـنَا على أن النظرية الماركسية تحتوي على مناهج ومضامين عِلْمِيَة، فيجب في هذه الحالة أن نتـعامل مع منتوج النظرية الماركسية، مثلما نتعامل مع منتوجات العُلوم الدَّقِيقَة. أي أنه يلزم أن ننظر إلى العناصر المكوّنة للنظرية الماركسية على أنها قابلة لِلنِّسْبِيَة، ولِلصَّوَاب، ولِلْخَطَأ، وللتَّطْوِير، مثلما تتطور مجمل نظريات العلوم الدّقيقة (في الفيزياء، والكيمياء، وغيرهما). فمن الممكن أن تظهر أُطْرُوحَة ماركسية مُعَيَّنَة سَليمة خلال فترة تاريخية؛ وفي فترة لَاحِقَة، يمكن أن نكتشف أن هذه الأطروحة الماركسية القديمة جُزْئِيَة، أو ناقصة، أو خاطئة. فَنُعَوِّضُ هذه الأطروحة الماركسية القديمة بأخرى يُفترض فيها أنها أكثر صَوَابًا. ونستمر في استعمال هذه الأطروحة الماركسية الجديدة إلى أن نكتشف نـقصًا، أو خطأً مَا فيها. فَنَسْتَبْدِلُها هي أيضًا بِأطروحة ماركسية أخرى بديلة، نَـفْتَرِضُ أنها أكثر صوابًا من سابقتها. وبهذه الرُّؤْيَة، سندرك أنه من غير المعقول أن نَتَعَامَل مع العناصر المكوّنة للنظرية الماركسية كأنها مُكْتَمِلَة، أو مُطْلَقَة، أو نِهَائِيَة، أو مُقدّسة. بل تَـفْـتَرِضُ الرُّؤية الجَدَلِيَة بأن تبقى مُكَوِّنَات النظرية الماركسية خاضعة للمُراجعة، وللنـقد، وللتطوير، ولِلتَّحْسِين. لذلك يقول بعض المفكرين (مثل سمير أمين): «يجب الانطلاق من الماركسية، وليس الوقوف عندها»(4).

وكلما تَكَلَّمْنَا عن «الماركسية» إلى بعض الأشخاص، يَتَّهِمُونَنَا فَوْرًا بِـكَـوْنِـنَـا «دُوغْمَائِـيِّيـن». لكن حَقِيـقة هؤلاء الأشخاص، هي أنهم لَا يرفضون فقط «الدوغمائية»، وإنما يرفضون «الماركسية» هي نَـفسها، وَيُعَوِّضُنها بِدِين «الرأسمالية» المُـقَـدَّس. وبعضهم يُنَدِّدُ بِـ «الدُوغمائية»، بِـهَـدَف تَبْرِير التعامل بِـ «انْتِـقَائِيَة» (éclectisme) مع مبادئ، أو قَواعد الماركسية. بَيْنَمَا رفض «الدُوغمائية» لا يُبرّر عدم الالتزام بِالمبادئ العِلمية الدَّقِيقَة الواردة في النظرية الماركسية. فهم يُريدون أن يأخذوا من «الماركسية» ما يُعجبهم، وأن يَرْفُضُوا مَا لَا يُعجبهم منها. وما يرفضونه في «الماركسية» هو أكبر بكثير مِمَّا يَـقْبَلُونه منها. وكمثال على ذلك، لا يُعـقل أن نرفض التَـقَيّد بِمبدأ «الصِرَاع الطَبَـقِـي»، وأن نُـعوّضه بِـنظرية «الواقعية»، أو «البْرَاغْمَاتِيَة» (pragmatisme)، أو بِـمَقُولَة «التعايش السِّلْمِي فيما بين الطبقات المُتناقضة». أو أن نَرفض مَبْدَأ «دِكْتَاتُورِيَة البْرُولِيتَارْيَا»، وأن نُعوّضه بِـ «ديكتاتورية البرجوازية». أو أن نَرفض مبدأ «إمكانية تحوّل الشيء إلى نَـقِيضِه»، وأن نُعوّضه بنظرية «الدَيْمُومَة»، أو «الأَبَدِيَة»، إلى آخره. وَلِكَي يُبرّروا «اِنْتِـقَائِيَتَهم» الفكرية، يقولون: «الماركسية ليست دِين»، و «ماركس ليس نَبيّا». وهذا صحيح. لكنهم لا يقولون بِنَـفس المَنْهَج عن الفيزياء، أو الرياضيات، أو الكِيميّاء، أو الطِبّ، «أنها ليست دِين، فَاتْرُكُونَا نَتَعَامَل بِحرّية، وبِانتقائية، مع هذه العُلوم». وفي الواقع، لَا تَهُمُّهُم «الدُوغمائية»، بَل هم يُعادون «الماركسية»، وهَمُّهم الأساسي هو الانتهازية، أي مصالحهم الشخصية.
(1) Thomas Henry Huxley (1825 – 1895) avait écrit que «L’esprit scientifique a plus de valeur que ses produits; et des vérités défendues de façon irrationnelle peuvent être plus nuisibles que des erreurs raisonnées. Or l’essence de la pensée scientifique, c’est l’exercice de la pensée critique» (Cité par Wikipedia : Ouvrage collectif (article Le « scandale » du British Museum, Pierre Thuillier), La Recherche en paléontologie, Paris, Seuil, coll. « Points science », 1989 (ISBN 2020104830), p. 342.).

(2) كارل ماركس، في أطروحته رقم 11 حول فُويِرْبَاخْ (Feuerbach): «لم يفعل الفلاسفة سوى تـفسير العالم بِطُرُق مُختلفة، بينما المطلوب هو تغييره». (K. Marx et F. Engels, Œuvres Choisies en trois volumes, Tome 1, Editions de Progrès, Moscou, URSS, 1976, p.9).

(3) كارل ماركس، في أطروحته الثانية حول فُويِيرْبَاخْ: «إن مسألة ما إذا كان الفكر الإنساني يمكن أن يَصِلَ إلى حقيقة موضوعية، ليس مسألة نظرية، بل مسألة عملية. فإذا أراد الانسان أن يُثْبِتَ الحقيقة، فينبغي عليه أن يُثْبِتَهَا في المُمَارَسَة». (نـفس المصدر السّابق، الصفحة 7).

(4) دَافع سعيد السعدي عن هذه الفكرة أثناء الندوة المنظمة لِتَكْرِيم المناضل أستاذ الاقتصاد سمير أمين، في 15 نونبر 2018، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط، المغرب.

13) مَــن يَــقْــدِرُ عـلى تَــطْــوِيــر الــمــاركــســيــة ؟

يميل بعض “الماركسيين” (غير العَالِمِين) إلى تـقْدِيس الماركسية، أو إلى التعامل معها بطريقة دُوغْمَائِيَة (dogmatique). لكن الماركسية هي نـفسها تَنْبُذُ الدُّوغْمَائِيَة“.

وقد تحوّل بعض المناضلين الماركسيين إلى «دُغْمَائِيِّين»، لأنهم اعتـقدوا أن الوفاء للمبادئ الماركسية الثورية، يـقتضي بالضّرورة عدم تغيير الأفكار، أو التصوّرات الماركسية. بينما مِيزَة عدم تغيير الأفكار هي من مِيزَات الشخص الأحمق. حيث يبقى الأحمق يعيش في لحظة مَاضِيَة ومَفْصَلِيَة من حياته، ولا يقدر على تجاوز الأفكار أو الأحاسيس المتعلّقة بتلك اللحظة الماضية. ويُفترضُ في المناضل الثوري أنه يلتزم بأن يجتهد، وأن يتطوّر، بشكل متواصل، في أفكاره، وتصوّراته، وممارساته، بهدف التَكَيُّف مع حَرَكِيَة (dynamique) الواقع المُجتمعي ومُتطلّباته. فيُغيّر أفكاره، دون أن يتخلّى بالضرورة عن “التوجّه العام” الثوري. مع العلم أن حتى “التوجّه العام” ينبغي أن يبقى خاضعًا للمُراجعة، وللمناقشة، وللعقل.

أكيد أننا نحتاج اليوم إلى تطوير النظرية الماركسية. ولكن ما هي «الماركسية»؟ يظن البعض أن «الماركسية» هي تَرَاكُم مُصْطَنع من الأفكار الدِّعَائِيَة، أو الوَصَفَات الجاهزة، لِإثَارَة تَمَرُّد ثوري عَنيف، وخَلق الفَوْضَى. وهذا تصوّر خاطئ. فَـ«الماركسية»، في جوهرها، هي نـقْد الرأسمالية، ونـقد المُجتمع الرأسمالي، بهدف المُساهمة في تحرير البشرية من الاِسْتِلَاب، ومن الاستغلال، ومن الاستبداد. وعليه، فتطوير «الماركسية» هو مُراجَعَة، وتَـعْمِيق، وتَحْيِين،نـقْد الرأسمالية. والنـقد الثوري، لَا يقف عند وَصْف المَظَالم، أو النـقَائِص، أو الأخطاء، وإنما يَتَجَرَّأُ أيضًا على اقتراح الحُلول العَقْلَانِيَة والثورية المُلائمة. وهذه الحلول المُقترحة، تكون بالضرورة مُرتبطة بزمان ومكان ظُهُورِهَا. ويستحيل أن تكون هذه الحلول المُقترحة صالحة لكل زمان ومكان.

ومن هو الشخص الذي يقدر على تطوير النظرية الماركسية؟ هل يقدر على ذلك المناضل المأجُور (salarié)، الذي يشتَـغِل خلال ثمانية ساعات في كل يوم، في مؤسّـسة مِهَنِيَة مُعَيَّنَة، مُقَابِل أُجْرَة. وخلال الوقت اليومي المُتَبَقِّي، ينشغل هذا المناضل بشؤون عائلته، أو يجري، خلال نهاية الأسبوع، بين مَقَرَّات الحزب ومقرَّات النـقابة، ولا يجد حتى الوقت الكافي لقراءة كتاب، أو مجلّة؟ مثل هذا الشخص لا يقدر حتى على الاطلاع على الثـقافة القائمة في مجتمعه، فبالأحرى أن يقدر على نـقدها، أو أن يقدر على تطوير النظرية الماركسية.

ونرى حاليًّا كثيرًا من أفراد قِيَادات أحزاب اليسار، الذين يَصِفُون أنـفسهم بكونهم «مَاركسيّين»، و«اشتراكيين»، نَرَاهم يتحمّلون في نـفس الوقت مسؤوليات مِهَنِيَة مُعْتَبَرَة، ويتظاهرون بأنهم يَسْهَرُون على تَدْبِير الحزب، ويزعمون أنهم يُساهمون في تطوير النظرية الماركسية، أو الاشتراكية، بينما هم لا يقدرون حتّى على تخصيص وقت كَافٍ للإِطِّلَاع على التُراثِ الثـقَافِي للبَشَرِيَة، بهدف تَـثـقِيـف أنـفسهم.

والمناضلون الذين ينتظرون حتّى يحصلوا على تـقَاعُدِهِم المِهَنِي لكي يمنحُوا للنضال النصيبَ الذي يستحقُّه من وقتهم، يُصبحون «مُسْتَهْلَكِين»، ومُنْهَـكِين، وغير مُؤَهَّلِين لِلْقِيَّام بِمُهِمَّة تطوير الماركسية. لأن مُهِمَّة تطوير الماركسية لَا تـقبل بأن تكون ثَانَوِيَة بالمقارنة مع مَهَام مِهَنِيَة أخرى. ولأن مُهِمَّة تطوير الماركسية هي مُهِمَّة عِلْمِيَة، دَقِيقة، ومُتْعِبَة، وطويلة الأمد. وتَتَطَلَّبُ من الشخص (الرَّاغِبِ في تطوير الماركسية) وقته كاملًا. ويحتاج هذا الشخص إلى استيعاب مُعْظَم التُراث الثـقافي البشري. فينبغي على من يطمح للمُساهمة في تطوير الماركسية أن يكون مناضلًا، ومُحْتَرِفًا ثَوريا، وأن يُخصِّص معظم وقته لقضايا المعرفة، والعلوم، والنضال.

ونُلاحظ أن كل المُفَكِّرين الذي ساهموا حَقًّا في إغناء الماركسية (مثل كَارْلْ مَارْكَسْ، وَافْرِيدْرِيشْ إِنْجَلْسْ، وفْلَادِيمِير لِينِين، ومَاوُو زِي دُونْغْ، إلى آخره) كانوا كُلُّهُم يَحْرُصُون دائمًا على توسيع تكوينهم العِلْمِي، لِكي يَشْمَلَ كل عُلُوم عَصْرِهم. وكانوا، في نـفس الوقت، فَلَاسِفَة نَابِغِين، وعُلَمَاء مُـقْتَدِرِين، ومُتحرّرِين من أي عمل مأجُور، ومستـقِلِّين في مواقـفهم، وفي أَحْكَامِهم. ولا يقدر أيَّ شخص على تطوير الماركسية إِلَّا إذا كان، في نـفس الوقت، فيلسوفًا مُمتازًا، وعَالما مُحَنَّكًا، في الاقتصاد السياسي، وفي عِلْمِ المُجتمع، وفي علم التاريخ، وفي علم السياسة. والاستيعاب الشُمُولِي والنـقْدِي لمُجمل هذه العلوم، هو بالضَّبْط الذي يُسَاعِد على اكتساب رُؤْيَة ماركسية ثورية للعالم. ويُفْتَرَضُ في الشخص المُرَشَّح لهذه المهمة أن يُكَرِّسَ حياته كلّها لهذا العمل، منذ شبابه، وبدون مقابل مادي. ويلزم أن يكون هذا الشخص مُتَحَرِّرًا من أيّ عمل مأجُور، ومن الخُضوع لأيّة سُلطة، لكي يعمل بِحُرِّيَة. ويَنْبَغِي أن تَـكون أكبر وأحسن مكتبات العالم في مُتَنَاوَلِه. [ويمكن للأجيال الحديثة، بفضل تـقنيات الأنترنيت (Internet)، أن تصل بسهولة أكبر مِمَّا كان مُتاحًا لِجِيلنا، إلى المُعْطَيات، وإلى المَعَارف العِلْمِيَة الضرورية]. ويلزم هذا الشخص المعني أن يَتَـتَـبَّعَ بِعِنَايَة فائقة كل الحركات الجماهيرية النضالية أو الاحتجاجية، سواءً في بلاده، أم في باقي بِقَاع العَالَم. ويُفْتَرَضُ في هذا الشخص المُرَشَّح (لِتَطْوِير الماركسية)، أن يكون مثل أَوْلَئِكَ الأطفال النَابِغِين، الذين يتعلّمون إتـقان عَزْف مُوسِيقَى بِيتْهُوفَن، أو مُوزَارْ، على الكَمَان، أو على البِيَانُو، منذ سِنِّ مُبْكِر. مثل هذا النُبُوغ يدخُل ضمنَ تَحَدِّيات الماركسية. وتلك هي إكراهاته العِلْمِيَّة. فَمَنْ يقدر على رَفْع هذا التحدّي؟

عندما يكون مناضل جاهلًا، وعندما يكون هذا المناضل مُجرّد جندي قَاعِدِي، يمكن أن نَـتحمّل (مُؤَقَّتًا فقط) جَهْلَهُ. ولكن إذا أصبح هذا المناضل الجاهل من بين المسؤولين الرئيسيِّين في الحزب (مثلما حدث مع اسْتَالِينْ)، فإن جهله سَيَتَسَبَّبُ للحزب، وللمُجتمع، في انحرافات، وربّما في كوارث، باهظة التَكْلُفَة. لماذا ؟ لأن النِضَال هو محاولة لِتَغْيِير المُجتمع. ولأن تغيير المجتمع لا يَنْجَحُ إلَّا بالعِلْم. ومن لا يتسلّح بمعرفة عِلْمِيَة شُمُولِيَة، ومُتَجَدِّدَة، ونَاقِدَة، لا يقدر على التأثير في تطوّر مُجتمعه. لِذا نـقول، ونُكَرِّر، لِكل حزب اشتراكي، أو ثوري، أو شيوعي، أو يساري: لَا تعتمدوا على التَّكوين التِلْقَائِي (spontané) للمناضلين، بل يجب عليكم أن تُنظِّمُوا أَوْرَاشًا، أو مَدَارِسَ، أو جامعات مفتوحة، تكون دَوْرِيَة، ومُتَوَاصِلَة، ومُتَوَازِيَة، وأن تَسْتَدْعُوا أحسن المُحاضِرين، أو المُفكّرين، أو العُلَمَاء، بِهدف تنظيم تَعْمِيم تكوين أعضاء الحزب، في جميع الميادين التي يحتاجها النضال، بما فيها الفلسفة، والمنطق، والاقتصاد السياسي، وتاريخ الثورات، والعلوم الدقيقة، وفلسفة القانون، والتكنولوجيات، والبيئة، وتـقْنِيَات القَمْع وتَاكْتِيكَاتِه، وأشكال التنظيمات الجماهيرية، وأساليب النضال الجَمَاهِيرِي المُشْتَرَك، إلى آخره.

وتخضع «الماركسية» لِلنِّسْبِيَة. ومن وجهة نظر الشخص الرأسمالي، يعتبر أن من حقّه أن يَتَمَلَّك، وأن يَسْتَغِلَّ، وأن يَحْتَكِر، وأن يَسُود، وأن يَغْتَنِيَ، وَبِِلَا حُدُود. ومن وجهة نظر العَامِل المَأْجُور، أو البْرُولِيتَارِي المُعْدَم، يَعتبر أن تَمَلُّك وَسَائِل الإِنْتَاج هو سَرِقَة مُمَوَّهَة، أو استغلال قَسْرِي، وأن استحواذ المُشَغِّل الرأسمالي على مُجمل فائض القيمة هو ظُلْم. ويرى أن ما هو ناقص لدى الكادحين، هو بالضبط ما هو فَائِض لدى الرأسماليين. وتختار الماركسية عن وعي الاِنْحِيَازَ إلى صَفِّ الكادحين.

14) أَلَــمْ يَــتَــضِــحْ بــعــدُ أن الاســتــمــرار في الــرأســمــالــيــة هـو انــتــحــار جــمــاعــي بَــطِــيء ؟

منذ نهاية “الحرب العالمية الثانية” (في سنة 1945) إلى اليوم في عام 2018، نُلَاحظ ظاهرة تتكرّر في كثير من البلدان. وهي أن مُجمل الأحزاب السياسية التي فازت في الانتخابات الرئاسية، أو البرلمانية، في الدول الرأسمالية الغربية، كانت قد فازت على أساس وَعْد بِتَحْسِين الرأسمالية. وفي الانتخابات اَلْلَّاحِقَة (أي بَعْدَ أَجَل انتخابي، أو إِثْنَيْن)، يَرْفُضُ الناخِبُون هذه الأحزاب السياسية السَّابقة، ويُصوّتون لصالح مُنَافِسِيها، لأن هذه الأحزاب السّابقة فَشِلت في تحسين الرأسمالية. وعند كل أَجَل انتخابي، يُلَاحظ الناخبون من جديد، أن المشاكل الرئيسية في الرأسمالية (مثل البطالة، والتـفْـقِير، وتَدَهْوُر أوضاع المَأْجُورِين، وتَعَمُّـق الفوارق الطَبَـقِيَة، والظُّلْم الضَرِيبِي، والتَلَوُّث، وتدمير الطبيعة، وهَشَاشَة السِّلْم في العالم، إلى آخره)، مَا تزال قائمة، بل تَتـفَاقَم من فترة إلى أخرى. وتِكْرَار هذا الفَشَل في محاولات تحسين الرأسمالية، هو الذي يـقودنا اليوم إلى الاستنتاج التَالِي: إن الرأسمالية وَصَلَت إلى ذِرْوَةِ إمكاناتها، وأنها غير قَابِلَة لِلتَّحْسِين، أو للإصلاح.بل إصلاح أوضاع البشرية (وَطَنِيًّا وعَالَمِيًّا) يقتضي تجاوز الرأسمالية هي نـفسها.

وَنُلاحظ منذ قرابة سنوات 2000، أن مجموعات مُتَوَالية من العُلماء أَخَذَت تَنْشُرُ بَيَانَات جماعية تَحْذِيرِيَة، تُنَبِّه فيها السياسيين، والمواطنين، إلى أننا، نحن البشر، نُدَمِّر أو نُبِيدُ أَصْنَاف الحياة بسرعة كبيرة، وبدون إمكانية العودة إلى الأوضاع القديمة. ويُهَدِّد تَسَارُعُ هذا التَّدْمِير استمراريةَ حياة البشرية هي نـفسها. حيث أدّى نَمَطُ عَيْشِ البشر الرأسمالي إلى اسْتِئْصَال وإبَادَة قرابة 60 % من الثَدْيِيَات والطُّيُور والأسماك والزَوَاحِف، خلال الـ 50 عامًا الماضية فقط. ويُدَمِّرُ البشر بِشكل أعمى نُظُمًا بِيئِيَّةً مُتَرَابِطَة. ويَـتَّـجِهُ هذا التَدْمِير مباشرة إلى نـقَاط الْلَّاعَوْدَة (points de non-retour). وَتَدْمِير هذه التوازنات الهَشَّة لكوكب الأرض، سَيَجعل حياة البشر فوقه مُتَعذِّرَة، ثم غير مُمكنة. ومجمل الدول الرأسمالية، و«المُؤَسَّـسَات العالمية»، تعجز على التعامل بِجِدِّيَة مع هذه التَحْذِيرَات التي نَشَرَها العُلَمَاء. وبمنطق جَشَع الرِّبْح، تُؤَثِّر مثلًا أعداد هامّة من شركات صناعة الأدوية على الأطباء، وتحثهم على كتابة وصفات أدوية، ولو أن هذه الأدوية لَا تُدَاوِي شيءً. ولكي تستمر شركات صناعات كيماوية في جَنْيِ أرباح مُثْمِرَة، مثل شركة “مُونْسَانْتُو” الأمريكية، تُروج مواد مثل “مُبِيدَات الأعشاب” (glyphosate)، رغم أن هذه المواد تتسبّب في السرطان، وفي أمراض أخرى. بل تلجأ هذه الشركات إلى شراء ضَمَائِر بعض الحُكَّام أو السياسيين لكي لَا يمنعوا استعمال هذه المواد. أو تـقوم هذه الشركات بِإرشاء بعض العلماء منعدمي الضمير، لكي ينشروا تـقارير علمية مزوّرة تزعم أن “مبيدات الأعشاب” لَا تتسبّب في أيّ مرض، أو لكي يُكذِّبُوا علماء آخرين عكس ذلك(1). وكون مُعظم شُعوب العالم غَارِقَة في الجهل، والفقر، والخُضُوع، والاِسْتِلَاب (aliénation)، يجعلها عاجزة عن إدراك خطورة مجمل هذه التطوّرات الرأسمالية، وعاجزة على الانتـفاض ضِدَّهَا. ومعنى ذلك، هو أن الاستمرار في نمط الإنتاج الرأسمالي المُعَوْلَم (mondialisé) يتحوّل بشكل مُتَسَارِع إلى انتحار جماعي بَطِيءلِمُجْمَل البشرية، الساكنة فوق كوكب الأرض.

وجزء هام وَمُتَنَام من البشرية، يريد اليوم التَحَرُّر من النَتَائِج الكَارِثِيَة لِلرأسمالية. لكن البشرية لا تعرف بديلًا آخر عن الرأسمالية غَيْرَ الاشتراكية.

وفي سنوات 1970، كُنَّا في “تنظيمات الحركات المَارْكِسية اللِّينِينِيَة” بالمغرب، نعتـقد أن موضوع “الاشتراكية” (ولو نظريًا) غير مطروح ضِمْن جدول مهام الوضع الرّاهن. لأننا كُنَّا نظن أنه لا يحق الكلام عن “الاشتراكية” في مُجتمع مُحدَّد، إلَّا إذا بلغ نُمُوُّه الرأسمالي مُسْتَوًى مُتـقَدِّمًا. وكُنَّا نـقول: «إن شروط بناء الاشتراكية لم تنضج بعد بما فيه الكفاية بالمغرب». أمَّا اليوم، فَأعتـقد أنه يجب دراسة موضوع “الاشتراكية”، واكتساب قدر كبير، ومُرْضٍ، من الوضوح حولها. وَلَوْ أن مُجتمعنَا لم يَبْلُغ (أو بالتَّدْقِيق، لَا يقدر على بُلُوغ) مُسْتَوًى متـقدّمًا من النُمُوّ الرأسمالي. وذلك لِعِدَّة اعتبارات جديدة، أبرزها ما يلي: 1) يفرض جِدَالنا وصِرَاعنا مع أنصار الرأسمالية أن يتوفَّر لدينا تصوّر متـقدِّم حول نمط الإنتاج البديل، أي حول مضمون الاشتراكية، وحول طُرق بنائها، وحول مُبَرِّرَاتها. 2) في مُعظم مناطق العالم، يحدث اليوم تَسَارُع في انْدِلَاع كَوَارِث تُؤَدي إليها الرأسمالية المُعَوْلَمَة (في مجالات: تخريب البِـيـئَـة، والانـقراض المُتَسَارِع للأنواع النَبَاتِيَة والحَيَوَانِيَة، وانتشار البطالة البِنْيَوِيَة والدَّائِمَة، وتعميق الفوارق الطبقية، وانتشار الفقر المُدْقِع، وتعميم الجَهْل، وتنامي الحركات اليَمِينِيَة المُتَطَرِّفَة، وتَجَدُّد حُرُوب بالوَكَالَة، تُدَمِّرُ كلّ شيء، إلى آخره)، الشيء الذي يَـفْرِضُ علينا، منذ الآن، أن نأخذ في الحُسْبَان، احتمال حُدُوث ثورات ضد الرأسمالية قبل الآجَال التي كُنَّا نَتَخَيَّلُهَا من قَبْل.وأن إنـقاذ البشرية من هذا الانتحار الرأسمالي الجماعي البَطِيء، سَيَفِرِض، في العديد من بلدان العالم، تَسْرِيعًا نِسبيًا في صَيْرُورَة التَحَرُّرِ من الرأسمالية. وسَيُعَجِّل بالحاجة إلى الشُرُوع في بناء الاشتراكية، أو إلى استعمال مَزِيجٍ من الرأسمالية والاشتراكية، قبل التَوَارِيخ التي كُنَّا نتصوّرها سَابِقًا.

لِذَا نحتاج اليوم إلى اكتساب أكبر وضوح ممكن حول تصوّرنا لمشروع المجتمع البديل الذي نطمح إليه (هل هو الرأسمالية؟ أم هو مزيج من الرأسمالية والاشتراكية؟ أم صنـف جديد من الاشتراكية؟). ويشمل هذا المشروع المجتمعي مهمة تَعْوِيض ”الرأسمالية“ بشيء آخر، ولو أننا لَا ندرك اليوم جَيِّدًا كلّ تـفَاصِيل هذا الشَّيء البديل، الذي نُسميه «الاشتراكية»، أو «الاشتراكية الانتـقالية».

ومن ضِمن العوامل الجديدة التي تَجعل الدِّفَاع عن الاشتراكية أكثر صعوبةً مِمَّا كان في الماضي، أن الدول العربية النـفطية (السعودية، وقطر، والإمارات، إلى آخره) تَخْلُقُ، وتُدَعِّم، سلسلة مُتَجَدِّدة من “الحركات والمِيلِيشْيَات الإسلامية الأصولية“؛ وأن مُجمل هذه الحركات هي مُحَافظة، أو رِجعية، أو عنيفة، أو مُمْتَثِلَة للعادات، أو مُتعاوِنَة مع الإمبرياليَّات الغربية؛ وأن هذه الحركات الإسلامية تَرْكَب على جهل غالبية الشعب وتستغلُّه؛ وأنها لَا تتوفّر على مشروع مُجتمعي وَاعِ أو عَـقْلَاني؛ وأن البرنامج الوحيد لدى هذه “الحركات الإسلامية” هو الرأسمالية المتوحِّشَة (رغم كلّ ما إِتَّضَح فيها من فظاعات مُجتمعية وبيئية). وَتَنْحُو هذه “الحركات الإسلامية الأصولية” بسهولة مُذْهِلَة نحو التَسَلُّح، والعُنـف، والحرب الأهلية التي تُخرّب كل شيء، وَبِسُرْعَة فَائِقَة.

وقد عَلَّمَتْنَا تجارب التاريخ الحديث، أن مجمل القوى الإمبريالية في العالم سيتحالفون ضِدَّنَا، وضِدَّ كُل من هو اشتراكي مثلنا، وسَيَخُوضُون حربا شاملة ضِدَّنَا، بهدف منعنا من اِتِّبَاع طريق بناء الاشتراكية داخل بلادنا. ونحن نُدْرِكُ أن كلّ الأفراد، والجماعات، والمؤسّـسات، الذين يستـفيدون من نَمَط الانتاج الرأسمالي، سَيَتَوَاطَؤُون فيما بينهم، وسيقولون لنا: «لا يمكن أن ينجح سوى النظام الرأسمالي وحده. وإن الاشتراكية هي وهم مستحيل التحقيق»! مثلما كان مَلَّاك العَبِيد يقولون: «إن العُبودية (esclavagisme) هي النظام الوحيد المعقول»! ومثلما كان الإِقْطَاعِيُّون يقولون: «إن التخلي عن الاقطاعية (féodalité) هو مَعْصِيَة لِلْـإِلَـه، وسيؤدي إلى الفوضى والخراب التَّام»!

ويَهْجُمُ كثير من أنصار الرأسمالية على الماركسية، وعلى الاشتراكية، وعلى برنامجها، وعلى طُمُوحَاتها المُجْتَمَعِيَة. ويَنْسَون أن الرأسمالية، لَا تتوفّر حتّى على نظرية مُدَقَّـقَة، وواضحة، وصريحة، فبالأحرى أن تـقدر الرأسمالية على مُقَارَعَة الماركسية بِحُجَج عَقْلَانية، أو عِلْمِيَة. بل الكثير من الأطروحات المُؤَسِّـسَة للرأسمالية هي إمَّا خاطئة، وإِمَّا كاذبة، وإمَّا ظَالِمَة. ومنها مثلًا الأطروحات الزَّائـفة التي تـقُول: إن «الرأسمالية تُوَفِّر وتَضْمَن حُرِّيَة المُبَادَرَة الاقتصادية»، أو إن «السُّوق هي التي تُحدِّد الأثمان»، أو إن «السوق تضمن تِلْقَائِيًّا حُرِّيَة وَنَزَاهَة المُنافسة»، أو إن «الرأسمالية تُغْنِي جميع الطبقات، وتـقَلِّصُ الفوارق الطبقية»، إلى آخره)!

ومثلًا في مجال النـقطة الأخيرة (المتعلّقة بِزَعْمِ تـقْلِيص الفوارق الطبقية)، اِسْتَعْمَلَ مُؤَخَّرًا الاقتصادي طُومَاسْ بِيكُوتِي (Thomas Piketty)، في كتابه الحديث، الصادر في سنة 2013، تحت عنوان «الرأسمال في القرن 21»، اِستعمل الإحصائيّات الرّسمية (في الولايات المتّحدة الأمريكية، وفي أوروبّا الغربية)، وبَيَّنَ أنه يُمكن للفوارق في الثَرَوَات أن تتـقلص، خلال فترات تاريخية محدّدة (مثلًا أثناء فترة «الحرب العالمية الثانية»، ثم خلال فترة «الحرب الباردة»، تحت ضغط وتأثير المنافسة فيما بين المُعَسْكَرَين الاشتراكي والرأسمالي). لكن هذه الفوارق الطبقية سُرْعَان مَا عَادت إلى مُستواها القديم، منذ سنوات 2000 تـقريبًا (بعدما توقّـفت تلك المنافسة). وتؤدّي طبيعة الدِّينَامِيَة التي تُحرّك الرأسمالية إلى تـفَاقُم أو تَعْمِيق الفَوَارِق في المداخيل، وفي الثروات، وفي الأجور، وفي التعليم، وفي الثـقافة، وفي المعارف، وفي العلاج الطبي، وفي حُظُوظ مُدَّة العيش، إلى آخره. الشيء الذي يُكَذِّبُ الأطروحة التي تزعمُ أن الرأسمالية تتطوّر من حسن إلى أحسن، وأنها تـقَلِّصُ الفوارق بين الطبقات، وأنها تُغني جميع الطبقات.

ومنذ عُـقُود، تَزْعُم أجْيَال مُتَوَالِيَة من السياسيين والاقتصاديين الرأسماليين، أن «مظاهر الفقر، والجهل، والتخلّف، والفساد، والاستبداد، الموجودة في ”بلدان العالم الثالث“، هي مُجَرَّد مَظاهر عَابِرَة، أو مؤقّتة». ويدَّعِي أولَئك السياسيين الرأسماليين (وكذلك المؤسّـسات البنكية العالمية المُقْرِضَة) أنه «إذا طَبَّـقَت ”بلدان العالم الثالث“ قَوَاعِدَ الرأسمالية بِدِقّة، سَتَلْتَحِقُ في مُستـقبل قريب، بِمُسْتَوَى تـقَدُّمِ البلدان الغربية الأكثر تـقَدُّمًا في العالم»! وهذه كذبة مُخَادِعَة، ومستحيلة الإنجاز. وقد سبق لِعُلَمَاء مرموقين في علم الاقتصاد السياسي، ومن ضمنهم الاقتصادي سَمِير أَمِين، أن طَرَحُوا أن «تـقدّم البلدان الغربية، وتخلّف بلدان العالم الثالث، هُمَا وَجْهَان لظاهرة واحدة. ويستحيل تغيير الجانب الثاني دون تغيير الجانب الأول». لأن المسألة هي مسألة بِنْيَوِيَة، في إطار تَبَادُل غير مُتَكَافِئ، وفي شبكة من الأنظمة الرأسمالية المُتَرَابِطة، والمُعَوْلَمَة.

ويَزْعُمُ بعض الرأسماليين النَيُولِيبِيرَالِيِّين (néolibéraux)، أن «النظام الرأسمالي يصلح لِكُلّ زمان، ولكلّ مكان، وأنه هو قَدَرُ البشرية الحَتْمِي، والنِهَائِي، والأَبَدِي». ويَدَّعُون أن «أَيَّ بلد في العالم، إذا اِتَّبَعَ قواعد الرأسمالية (التي تُرَوِّجُها مُؤَسَّـسات “البنك العالمي”، و”صندوق النـقد الدُّوَلِي”، و”المنظّمة العالمية للتِّجارة”، إلى آخره)، فإنه سَيَلْتَحِقُ بمستوى تـقدم البلدان الأكثر تـقدُّمًا في العَالَم»! وعلى خلاف هذه الأطروحات الْـلَّاتَارِيخِيَة، والْـلَّاجَدَلِيَة، نُلاحظ، خلال الفترة المُمْتَدَّة من نهاية «الحرب العالمية الثانية» إلى اليوم (في سنة 2018)، أن بلدان العالم الوحيدة التي استطاعت الخُرُوج من التخلّف المجتمعي الشامل صِنـفَان: الصِّنـف الأول هو البلدان التي خاضت ثورة وطنية تَحَرُّرِيَة ديموقراطية، تحت قيادة أحزاب شِيُوعية، أو اشتراكية، وطبّقت مناهج تَنْمَوِيَة اشْتِرَاكية، أو مناهج “رأسمالية دَوْلَة وَطَنِيَة شَعْبِيَة” (مثلما حدث في رُوسْيَا، والصِّين، وفِيتْنَام، وكُوبَا، وكُورْيَا الشمالية، وبدرجة أقل الهِنْد، إلى آخره)؛ والصِّنـف الثاني هو بلدان حَظِيَتْ بِدَعْم شَامِل، واستثنائي، من طرف المراكز الإمبريالية، وذلك في إطار الاستراتيجية العالمية التي تخوضها هذه المراكز الإمبريالية، لِمُحَاصَرَة، ومُحَارَبَة، كُلّ الأنظمة الشيوعية، أو الاشتراكية. ومنها مثلا: كُوريَا الجنوبية، وتَايْوَان، وَسَنْغَافُورَا، [وإسرائيل]، إلى آخره. ولو لم تُدَعِّم الإمبرياليات هذه البلدان المذكورة لَمَا وَصَلَت إلى ما هي عليه من التنمية الاقتصادية. والبَلَدَان الوَحِيدَان في العالم اللَّذَان يَقْدِرَان اليومَ على مُعارضة، أو مُقاومة، أو منافسة، المراكز الإمبريالية، هما الصِّين وروسيا، اللذين قَادَهُمَا حزبان شيوعيان، خلال قُرابة سَبْعِينَ عامًا، وأَخْرَجَاهُمَا من تخلّف مُجتمعي قُورُونْ وُسْطَوِي (moyenâgeux).

والمُـفَارَقَة (paradoxe) العجيبة، هي أن خطاب الرأسمالية عن نـفسها هو، في معظم الحالات، مُخَالِف، أو مُنَاقِض، لواقع هذه الرأسمالية. ويتكلّم مثلًا بعض الرأسماليين، في إطار رأسمالية مُعَوْلَمَة، عن «التَنْمِيَة المُسْتَدَامَة». وفي الواقع، فإن هذه «الاستدامة» المزعومة، مستحيلة، لأن المَوَارِد الطبيعية الموجودة على سطح كوكب الأرض محدودة، وحاجيات البشر ”الرأسمالية“ تَتَـزايَد باستمرار. وأكّد بعض العلماء أنه، في حالة افتراض أن جميع بلدان العالم سَتَعِيش بنـفس النَمَط الرأسمالي القائم في البلدان الأكثر تـقدّمًا، وبنـفس المُستوى في الاستهلاك الرأسمالي، فإن البشرية ستحتاج إلى المواد الخَام الموجودة في ثَلاثة كواكب من صنـف كوكب الأرض!

وأصبحت أغلبية عُلماء العالم يَتـفِـقُون على أن نمط الإنتاج الرأسمالي، ونمط الاستهلاك الرأسمالي، (بما فيه الإِفْرَاطُ، منذ أكثر من قرن، في استعمال الهِيدْرُوكَارْبُونَات [hydrocarbures])، أَدَّيَا إلى ظاهرة ”الاحتباس الحراري“(réchauffement climatique)، وأن ارتـفاع مُعَدَّل درجة الحرارة على كوكب الأرض بِـ 2 أو 3 درجات سِيلْسْيُوسْ (Celsius)، في قرابة نهاية القرن 21، سَيُؤَدِّي إلى ذَوَبَان الجَلِيد (glaces)، وإلى ذَوَبَان “الأراضي الدَّائِمَة التَجَمُّد” (permafrost). وَسَيُحْدِثُ كَوَارِثَ طبيعية مُتنوِّعة، وغير مَسْبُوقَة. وأن البشرية تعجز على مُقَاوَمَة هذه الكَوَارِث. وأن نُكْرَان هذه الأطروحات العِلْمِيَة، من طرف بعض السِيَاسِيِّين الجُهَّال، المُنْتَمِين للحركات الإسلامية الأصولية، أو لِلْيَمِين المُتطرّف الجديد، مثل الرئيس الأمريكي دُونَالْدْ تْرَامْبْ، سَيُعَرِّضُ البشرية لِكَوَارِث قَاتِلَة. وأَدَّى نمط الإنتاج الرأسمالي المُعَمَّم، إلى كَوَارِثَ أخرى، منها تَعْمِيم استعمال مُبِيدَات الحَشَرِات في الفلاحة، واستخدام مَوَادَّ كِيمَاوية أخرى، تُحْدِثُ اضطرابات في الغُدَد الصَّمَاء (perturbateurs endocriniens)، وتَتَسَبَّب في تَضَاعُف حالات السَّرَطَان، وفي إفْقَار الأراضي الفلاحية، وفي تَعْمِيمِ إِزَالة الغابات، وتَلْوِيت الهواء في المدن، وتَلْوِيث الأراضي، والأنهار، والمحيطات، بمواد كيماوية مُتعدّدة، ومُضِرَّة. ويستحيل التَخَلُّص من هذه المواد المُلَوِّثَة، لَا بسرعة، ولَا بشكل كامل.

وفد ساقتنا الرأسمالية إلى إِقَامَة تَوَازُنَات الرُّعْب العالمية، وإلى صُنْع، ومُرَاكَمة، وتخزين، تَرْسَانَات هَائلة من أسلحة الدَّمَار الشَّامل، النَوَوِيَة، والهِدْرُوجِنِيَة، والكيماوية، والبيولوجية. وتكفي هذه الأسلجة المُرَاكَمَة إلى إبادة البشرية كلّها عدة مرات. ولكي تُصْبِح هذه المغامرة الحمقاء مُحتملة، يكفي أن يَصِلَ، في نـفس الوقت، إلى مسؤوليات الرِّئَاسَة في بضعة بلدان غربية، أشخاص جُهَّال، ويمينيون متطرّفون، أمثال الرئيس الأمريكي الحالي دُونَالْد اتْرَامْبْ. هكذا سَتُصْبِحُ المُقَامَرَة بالسِّلم العالمي ممكنة، وسَتَغْدُو المُغَامَرَة بتجريب حرب شاملة جديدة، واردة جدًّا بين الدول القوية. ومن الممكن أن تكون هذه الحرب كافية لإبادة معظم البشرية أو كلها. وما دَامَت الرأسمالية موجودة، فإن هذا الاحتمال سيبقى وَارِدًا.

وَلِكُلِّ هذه الاعتبارات، نُؤَكِّد أن استمرار البشرية في نَمَط الانتاج الرأسمالي، وفي نمط الاستهلاك الرأسمالي، هو انتحار جماعي بَطِيء. ويمكن لهذا الانتحار الجماعي البَطِيء أن يتحوّل إلى إبادة شاملة وسريعة، لِجُزْء هَامّ مِن البشرية، بفعل أسلحة الدَّمَار المُرَاكَمَة والمخزُونَة. ومجمل البشرية تحتاج اليوم، وبسرعة، إلى تحصيل أكبر وضوح ممكن، حول نمط الإنتاج البديل، الذي سَنُعَوِّض به نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي لَا يقبل الخُضُوع لَا للعقل، ولَا للشعب.

—–❊❊❊◊❊❊❊—–

واليوم، توجد مُجمل البشرية في أزمة(2) لم يسبق لها مثيل. وتَدْفَعُ أكثر فأكثر الرأسماليةُ المُعَوْلَمَةُ مجمل البشرية نحو نوع من الانتحار الجماعي، الذي يُمكن أن يكونبَطِيئًا، كما يمكن أن يكون فائق السُّرْعَة. ورغم الطّابع المَفْضُوح لهذا الانتحار الرأسمالي الجماعي للبشرية، يظهر كأنه غير مَشْعُور به، أو غَيْرَ وَاعِ، من طرف معظم شعوب العالم. والطبقات السَّائدة، أو المُسْتَغِلَّة، التي تحتكر سلطات القَرَار، تُعْمِيهَا أنَانِيَتُهَا، فَتَـتَمَادى كعادتها في تغليب مصالحها الضَيِّـقَة، أو القصيرة المَدَى، على مصالح شُعُوبها، وعلى مصالح البشرية جمعاء. وإن انْحِبَاس الكثير من الحركات المناضلة الصَّادِقَة، في الحدود الضَيِّـقَة للمطالبة بقليل من الديمقراطية هُنَا، وبقليل من حقوق الإنسان هُنَاك، دون إعادة النظر في نمط الإنتاج الرأسمالي في شُمُولِيَّته، سَيكون بِمَثَابَة اِنْخِدَاع غير مسؤول، وغير مقبول. والماركسية هي من المَدارس الفكرية النادرة جِدًّا التي تنتـقد الرأسمالية، وتـفْضَح آلِيَّاتِهَا المُسْتَلَبَة (aliéné)، وتَحُثُّ على التحرّر منها. فهل سَتـقْبَل الشعوب فَنَائَهَا، دون مقاومة، ولَا انتـفاض، ولَا ثورة شَامِلَة؟ وهل سنكون، كبشر، في مستوى رفع هذه التَحَدِّيَات، قبل فَوَات الأَوَان الحَاسِم؟

(1) Emission de télévision “Complément d’enquête” sur le canal “France 2”, le 15/02/2019, sur l’interdiction avortée du Glyphosate en France.

(2) أنظر على الأنترنيت نـقدا حديثا ومُهِمًّا للرأسمالية، لِيُوهَانَسْ فُوجَلْ (Johannes Vogele): (http://www.krisis.org/2000/essai-d-une-autocritique-de-la-gauche-politique-economique-et-alternative/).

الـــــهـــــوامـــــــش :

( 1 ) كارك ماركس، في أطروحته رقم 3 حول فُويِيرْبَاخً (Feuerbach) (K. Marx et F. Engels, Œuvres Choisies en trois volumes, Tome 1, Editions de Progrès, Moscou, URSS, 1976, p.9).

(2) أنظر كتاب رحمان النوضة: نقد أحزاب اليسار بالمغرب. ويمكن تحميله من مدوّنة الكاتب (https://LivresChauds.Wordpress.Com).

(3) Parmi les ouvrages (en français) de Charles Bettelheim: La transition vers l’économie socialiste; La planification soviétique; L’économie soviétique; La construction du socialisme en Chine; Révolution culturelle et organisation industrielle en Chine; Les luttes de classes en URSS; L’industrialisation de l’URSS dans les années 1930; Questions sur la Chine après la mort de Mao Tsé-toung.

(4 ) رِزْكَارْ عَقْرَاوِي هو أوّل من طرح فكرة “اليسار الإلكتروني” (E-Left). وسَانَدَ “عدم التمسك الحرفي بالنصوص الماركسية”. ونَادَى بإحداث: “يسار يستند إلى التطور المعرفي والعلمي العقلاني، وإلى الفكر اليساري والإنساني، وقادر على الاستفادة، واستخدام التطور العلمي، والتكنولوجي، في عمله النظري، والسياسي، والتنظيمي، والإعلامي، والثـقافي، والجماهيري. ويطرح سياسات واقعية، وينطلق من قدراته، ومن قدرات الفئات التي يدافع عنها، ومن درجة تطور المجتمعات”.

(5) يُعَدُّ مُجْمَل زُوَّار مَوْقِع “الحِوَار المُتَمَدِّن” بالملايِين. ويبلغ العدد الإجمالي للمواضيع المَقْرُوءة في “الحوار المُتمدّن” أكثر من 3 مِلْيَارَات. ويَفُوقُ عدد المواضيع المُرسلة إلى “الحوار المُتمدّن” 750 ألفً موضوع. ويبلغ عدد كَاِتَبات وكُتَّاب “الحوار المُتمدّن” 623 32 كاتبة وكاتب.

(6) كِتَاب: اسْتِيفَنْ أَنْتُونِي اسْمِيثْ، “رُوسْيَا في ثورة: إِمْبْرَاطُورِيَة في أزمة، 1890-1928″، باللغة الإنجليزية.

(7 ) سنرى في الأجزاء الآتية من هذا النَصِّ الحُجج التي تُثْبِتُ ضعف ثقافة اسْتَالِين.

(8) الكتب المنسوبة لِجُوزِيف اسْتَالِين: «الفوضوية أو الاشتراكية؟»؛ «الماركسية والمسألة الوطنية والاستعمارية»؛ «مبادئ اللينِينية»؛ «قضايا اللِّينِينِية»؛ «الإنسان هو الرأسمال الأكثر قيمة»؛ «تاريخ الحزب الشيوعي البَلْشفِي»؛ «المادية الجدلية والمادية التاريخية»؛ «بعد الانتصار، السِّلْم الدَّائِم»؛ «الماركسية ومشاكل عِلْم اللِّسَانِيَات»؛ «المشاكل الاقتصادية في الاشتراكية في الاتحاد السُّوفياتي»؛ «كُتَيِّب الاقتصاد السياسي»؛ «حول الحرب الكبرى للاتحاد السوفياتي»؛ «تاريخ الثورة الروسية» في أربعة أجزاء؛ «الشبيبة الشيوعية»؛ «لِينِين»؛ إلى آخره.

(9) الأنظمة البُوليسية المشهورة المُتَعَاقِبَة هي: اتْشِيكَا (Tcheka)، الجِيبِيأُو (Guépéou)، إِنْكَافِيدِي (NKVD).

( 10) تناول رحمان النوضة موضوع العلاقة بين السياسة والأخلاق في عدّة وثائق. أبرزها: كتاباه باللغة الفرنسية (Le Politique)، و (L’Éthique politique)، وكذلك مقاله: “العلاقة بين السياسة والأخلاق”. ويمكن تنزيل هذه الوثائق من مدوّنة الكاتب (https://LivresChauds.Wordpress.Com).

( 11 ) افْلَادِيمِير لِينِين، في مقاله “من أجل الذكري الرابعة لثورة أكتوبر”، نُشِرَ في جريدة “البرافدا” في 18 أكتوبر 1921، وَوَرَدَ ضمن كتاب (يحتوي على مقتطفات من أعمال لِينِين) تحت عنوان: “الثقافة والثورة الثقافية”، منشورات التقدم مسكو، الاتحاد السوفياتي، السنة 1977، من الصفحة 177 إلى الصفحة 192، (باللغة الفرنسية).

(12) أُتَرْجِمُ مقتطفات (بِتَصَرُّف شخصي)، من الفرنسية إلى العربية، مأخوذة من المرجع المذكور في الحاشية السابقة، الصفحات 177، 179.

(13) نفس المرجع السَّابِق، الصفحات 178، 179.

(14) نفس المرجع السابق، الصفحات 178،

(15) نفس المرجع السّابق، الصفحة 179.

(16) نفس المرجع السابق، الصفحة 179.

( 17) Martin Edward Malia, “La Tragédie soviétique”, p. 218. https://fr.wikipedia.org/wiki/Nouvelle_politique_%C3%A9conomique.

(18) سمير الخطيب، في مقاله «جدلية الثورة، والديمقراطية، والاشتراكية»، على موقع “الحوار المُتمدِّن”، العددين 5588، و 5598.

( 19) سمير الخطيب، نفس المصدر السابق.

(20) نشر مؤخّرًا رِيمِي هِيرِيرَا (Rémy Herrera) في سنة 2019 كتابا تحت عنوان: “هل الصين اشتراكية”؟ (http://www.reveilcommuniste.fr/2019/03/la-chine-est-elle-capitaliste-video-remy-herrera.html).

(21) بشيء من التَبْسِيط، أو التلخيص، “البْرُولِيتَارِيَا” هي الطبقة العاملة. وتتكوّن من الأشخاص الذين لَا يملكُون رَأْسَمَال، ولَا وَسَائِلَ إنتاج، فَيَضْطَرُّون إلى بيع “قُوَّةِ عَمَلِهِم” مُقَابِلَ أُجْرَة دَوْرِيَة، بِهَدَف تَلْبِيَة حَاجِيَّاتِهم المادية. وإذا دخلنا في التفاصيل، يمكن أن تتعقَّد الأمور أكثر.

(22) في كتاب «طبقات المُجتمع»، لا يستعمل رحمان النوضة مُصْطَلَح «طبقة البرجوازية»، وإنما يستعمل مُصْطَلَح «طبقة المُسْتَغِلِّين». وقسّم «المُسْتَغِلِّين» إلى «طبقة المُسْتَغِلِّين الصّغار»، و«طبقة المُسْتَغِلِّين المتوسّطين»، و«طبقة المُسْتَغِلِّين الكبار». وحدّد أيضًا «طبقة المُسْتَغَلِّين»، و«طبقة الذين لَا يَسْتَغِلُّون ولَا يُسْتَغَلُّون». ويمكن تنزيل هذا الكتاب من مدوّنة الكاتب: LivresChauds.Wordpress.Com.

(23) أنظر كتاب رَحْمَان النُوضَة، “طبقات المجتمع”. ويمكن تنزيله بالمجان من مُدَوَّنَتِه.

(24) Joseph Staline utilise «l’argument de l’autorité», au lieu d’utiliser «l’autorité de l’argument».

(25) سبق لي أن أوضحتُ هذه القاعدة المُجتمعية (loi sociétale) في كُتُبي التالية (باللغة الفرنسية): “المُجْتَمَعِي” [Le Sociétal]، و”السياسي” [Le Politique]، و”الأخلاق السياسية” [L’Éthique politique]). وكذلك في كتابي “نقد الشعب” (باللغة العربية).

(26) La révolution culturelle pacifique et ininterrompue des masses laborieuses.

(27) https://fr.wikipedia.org/wiki/Grandes_Purges

(28) سمير الخطيب، «جدلية الثورة والديمقراطية والاشتراكية»، مقال موجود على موقع “الحوار المُتَمَدِّن”، الأعداد: 5588، و 5598.

(29) أنظر كِتَابَي أَلِكْسَنْدَرْ سُولْجِينِتْسِين: Alexandre Soljenitsyne: (L’archipel du Goulag)، (Le pavillon des cancéreux).

(30) عن القناة التلفزية الفرنسية LCP)، في مساء يوم 19 مارس 2019.

(31) سمير الخطيب، في مقاله: «جدلية الثورة، والديمقراطية والاشتراكية»، على موقع “الحوار المُتَمَدِّن”، العدد 5588، و 6698.

(32) حدثت مجاعة في الصِّين بين سنتي 1958 و 1962.

(33) Économie de la république populaire de Chine, sur Wikipédia, consulté le 25/11/2018.

(34) Rééquilibrage de l’Économie Chinoise: Un état des lieux, Françoise Lemoine & Deniz Ünal, CEPII, 14ème colloque de l’Association de Comptabilité Nationale Paris.

(35) https://fr.wikipedia.org/wiki/Économie_de_la_république_populaire_de_Chine.

(36) المقصود هنا هو الناتج المحلي الإجمالي بِاعْتِبَار “تَـعَادُل القُوَّة الشِّرَائِيَة” (PIB à parité de pouvoir d’achat). وَيَعْتَمِدُ منهج “تعادل القوة الشرائية” على استعمال مِقًيَاس القوة الشرائية، فيما يتعلق بـ “سَلَّة” تَتَكَوَّنُ من 3000 منتوج، بدلاً من الاعتماد على تحويل الناتج المحلي الإجمالي عَبْرَ استعمال “سِعْرِ الصَّرف الرسمي”.

(37) Rééquilibrage de l’Économie Chinoise: Un état des lieux, Françoise Lemoine & Deniz Ünal, CEPII, 14ème colloque de l’Association de Comptabilité Nationale Paris.

(38) نفس المصدر السابق.

39) https://fr.wikipedia.org/wiki/%C3%89conomie_de_la_r%C3%A9publique_populaire_de_Chine

(40) “Qui seront les ingénieurs de demain?”, ParisTech Review, sur le Blog “LesEchos”, http://blogs.lesechos.fr/paristech-review/a13937.html

(41) منها مثلًا رِوَايَة: (Qiu Xiaolong, “Dragon bleu, tigre blanc”, Edition Liana Levi, 2014, Traduction française). وأذاعت القناة التلفزية “بِي بِي سِي” بالعربية، في 20 يناير 2019، فيلما وثائقيا، يُظهر مواطنين صينيين يشهدون على «انتشار الرشوة والفساد» في الصِّين.

(42) رِيمِي هِريرَا (Rémy Herrera)، في فِيدِيُو حول كتابه المعنون بِـ: “La maladie dégénérative de l’économie, le néoclassicisme”.

[https://www.facebook.com/profile.php?id=100009294356071]

.

(43) وبالمُصْطَلَحَات الطَبَقِيَة التي استعملها الكاتب رحمان النوضة، في كتابه “طبقات المتمع”، يمكن القول: خلال فترات تاريخية مُعَيَّنَة، يمكن لفئات من طبقة الذين لَا يَسْتَغِلُّون ولَا يُسْتَغَلُّون، أو من طبقة المُسْتَـغِلِّين الصِّغَار، أن تكون مناضلة، أو ثورية، مثل طبقة المُسْتَغَلِّين، أو حتّى أكثر منها، دون أن تكون هذه الصفات دَائمة.

( 44) أنظر في هذا المجال كتاب: “نقد الشعب”، رحمان النوضة (الصيغة 54). ويمكن تحميله من مدوّنة الكاتب: (LivresChauds.Worpress.Com).

(45) َ وَرَدَت هذه المقولة في استجواب لِابْرَاهَام السَّرْفَاتِي، أجرته معه كنزة الصفريوي حول مجلة ”أنفاس”.

(46) نشرت “منشورات التقدم موسكو” (Edition du progrès Moscou) في سنة 1977 كتاب: “لِينِين، الثقافة والثورة الثقافية” (باللغة الفرنسية) (culture et révolution culturelle) جمعت فيه مقتطفات من خُطب لِينِين، وتدخّلاته، ونصوصه، المتعلّقة بالثقافة.

(47) أبرز كتب كارل ماركس هي: من أجل نقد فلسفة القانون لدى هيجل (صدر في سنة 1843)؛ مخطوطات 1844؛ الأيديولوجية الألمانية (صدر في سنة 1845، وهو كتاب مُشترك مع فْرِيدْرِيشْ إِنْجَلْزْ)؛ بيان الحزب الشيوعي (1848، مع إنجلز)؛ الرَّأْسَمَال (1867)؛ الحرب الأهلية في فرنسا (1871). وهي كلها موجودة على الأنترنيت، وبعدة لُغَات. وتُوجد مكتبة رَقْمِيَة على الأنترنيت، يمكن العثو فيها على نصوص الكثيرين من الكتاب الماركسيين، وبِلُغَات مختلفة، وهي: [Marxists.org [archive] Archive internet des marxistes].

(48) ذكر موقع المَوْسُوعَة “فِيكِيبِدًيَا” (Wikipedia) لَائِحَة جزئية لِلْمُفَكِّرِين الذين يعتبرون أنفسهم ماركسيين: Louis Althusser, August Bebel, Walter Benjamin, Daniel Bensaïd, Bertolt Brecht, Cornelius Castoriadis, Guy Debord, Jacques Ellul, Friedrich Engels, Herman Gorter, André Gorz, Antonio Gramsci, Henryk Grossmann, David Harvey, Michel Henry, Anselm Jappe, Leo Jogiches, Karl Kautsky, Alexandra Kollontaï, Karl Korsch, Robert Kurz, Paul Lafargue, Henri Lefebvre, Vladimir Ilitch Lénine, Abraham Léon, Karl Liebknecht, Georg Lukács, Rosa Luxemburg, Herbert Marcuse, Paul Mattick, Ernest Mandel, Anton Pannekoek, Kostas Papaïoannou, Nicos Poulantzas, Gueorgui Plekhanov, Moishe Postone, Isaak Roubine, Maximilien Rubel, Alfred Schmidt, Georges Sorel, Léon Trotski, Raoul Vaneigem, Nildo Viana, Jean-Marie Vincent, Clara Zetkin.

(49) من أحسن ما نشره المناضل المغربي عبد السلام الموذن، مقاله تحت عنوان: “ثورة ماركس في نظرية المعرفة”. ويعرض فيه تاريخ صَيْرُورَة تَكَوُّن النظرية الماركسية. وهو فصل مأخوذ من كتابه: “الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية”، نشر “عيون المقالات”، الدار البيضاء، الطبعة الأولى في سنة 1990، الصفحة من 93 إلى 143. ورابطه هو (https://www.marxists.org/arabic/).

(50) L’égoïsme individuel comme moteur de l’activité économique.

(51) La solidarité comme moteur de l’activité économique.

(52) أنظر مقال رحمان النوضة: «نـقد أنصار الرأسمالية»، وهو موجود على مُدَوَّنَتِه.

(53) كارل ماركس، في أطروحته رقم 11 حول فُويِرْبَاخْ (Feuerbach): «لم يفعل الفلاسفة سوى تفسير العالم بِطُرُق مُختلفة، بينما المطلوب هو تغييره». (K. Marx et F. Engels, Œuvres Choisies en trois volumes, Tome 1, Editions de Progrès, Moscou, URSS, 1976, p.9).

(54) كارل ماركس، في أطروحته الثانية حول فُويِيرْبَاخْ: «إن مسألة ما إذا كان الفكر الإنساني يمكن أن يَصِلَ إلى حقيقة موضوعية، ليس مسألة نظرية، بل مسألة عملية. فإذا أراد الانسان أن يُثْبِتَ الحقيقة، فينبغي عليه أن يُثْبِتَهَا في المُمَارَسَة». (نفس المصدر السّابق، الصفحة 7).

(55) دَافع سعيد السعدي عن هذه الفكرة أثناء الندوة المنظمة لِتَكْرِيم المناضل أستاذ الاقتصاد سمير أمين، في 15 نونبر 2018، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط، المغرب.

(56) Emission de télévision “Complément d’enquête” sur le canal “France 2”, le 15/02/2019, sur l’interdiction avortée du Glyphosate en France.

(57) أنظر على الأنترنيت نـقدا حديثا ومُهِمًّا للرأسمالية، لِيُوهَانَسْ فُوجَلْ (Johannes Vogele): (http://www.krisis.org/2000/essai-d-une-autocritique-de-la-gauche-politique-economique-et-alternative/).

! شارك في النقاش عبر كتابة تعليقك

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.